بقلم سوسن الأبطح
في الذكرى الأربعين، لانطلاق الرصاصة الأولى في الحرب الأهلية اللبنانية، 17 ألف عائلة لا تزال تبحث عن أولادها الذين لم يعودوا، ولم يعرف مصيرهم. ثمة أمهات لا تزال تبكي فلذات أكبادهن. هناك من لا يريد أن يصدق بأن اللقاء بهؤلاء لم يعد ممكنا، وغيرهم يستجدي ولو رفاتا يريحه من ألم الانتظار.
البعض يطالب بقانون يحمي القبور من النبش مخافة طمر بقايا الأحبة، وثمة من يريد فحصا لحمضه النووي يحفظ في المختبرات، خشية الموت قبل عودة المفقود أو العثور على أثر له، وتعذر معرفة صحة نسبه.
بعد ما يقارب النصف قرن لم يفلح اللبنانيون، في جعل حربهم اللعينة مجرد ذكرى لاستخلاص العبر، كما هي حال الأوروبيين مع حربيهم الأولى والثانية. فأهالي المفقودين الذين يعتصمون أسبوعيا حاملين صورا قديمة لأطفال وشبان من المفترض أنهم كبروا عقودا، للتذكير بقضيتهم، قرروا هذه المرة أن يطلقوا حملة بعنوان «حقنا نعرف»، لأربعين يوما، تضمن نشر صورٍ، في كل لبنان، تسأل عن مكان اختفاء أولادهم، وعن سبب صمت اللبنانيين وغياب المسؤولين. يكاد أهالي المفقودين يتحولون، لكثرة ما اعتصموا وصرخوا، إلى فلكور وطني رغم عظم مأساتهم، ومع أنهم المهماز الذي يفترض أن يذكّر بأن الحرب لم تنته، وأن النقطة الأخيرة لم توضع على السطر بعد.
17 ألف مفقود، لا هم في عداد الأحياء ولا الموتى، لا تزال عائلاتهم تبكيهم، ومع ذلك فإن جيلا لبنانيا بأكمله اليوم، لا يعرف عن تلك الحرب المجنونة، سوى ما شاهده عابرا على الشاشات أو ما سمع عنه شفاهة. يقف كتاب التاريخ المدرسي عند حقبة الاستقلال ورجالاتها العظام، ويصمت عما تلاها، من فشل سياسي أدى إلى هلاك ودمار، لا يزال شبحه شاهرا أنيابه. كتاب التاريخ الفرنسي له جرأة الوصول إلى الرئيس الحالي فرنسوا هولاند، يعدد الحقب والرؤساء، يتحدث عن سياساتهم واستراتيجياتهم، أين أخطأوا وكيف أصابوا؟ ما هي إنجازاتهم وإخفاقاتهم؟ ثمة قراءات علمية متاحة دائما، حين يكون العقل فطنا، حتى لأكثر الكوارث الوطنية إثارة للجدل. حذف الحرب من المناهج، لا يعني أنها لم تمر من هنا، بل إنها مقيمة بيننا، ولا شيء يمنع أن تستيقظ وتفترسنا في لحظة طيش.
الإصرار الشديد والملحاح على الاحتفاء بـ«التعاضد» دون القبول بقراءة نقدية وصريحة للعقود الأربعة الماضية، يجعل الحرب الأهلية سكينا مغروسة في القلب، تحركها يد المكر متى شاءت، وتعفّ عنها متى أرادت. يركض اللبنانيون معا، وسط بيروت، كل سنة، من أجل السلام واستعادة اللحمة، ينشدون جيشهم الذي استعادوه بدمائهم، أجمل القصائد، تؤرشف جمعياتهم مجازر الحرب، وتجمع صور ضحاياها، وشهادات الناجين، يكتب سياسيوه مذكراتهم ليخفوا أكثر مما يعترفون. لم يخرج السينمائيون والروائيون من تيمة الحرب، جزئيا، إلا في السنوات الأخيرة، وليعودوا إليها، مرغمين، تحت وطأة النيران المجاورة التي تزنرهم. بقي بؤساء الموت والتهجير، هم أبطال الأفلام من مارون بغدادي، مرورا بزياد دويري وصولا إلى «ليال بلا نوم» لإليان الراهب، و«هلأ لوين» للبديعة نادين لبكي. الحرب الطويلة والمديدة سطت على أخيلة الروائيين وغزتها، حتى كأنه لم يعد لهم من قضية غيرها. من هو الروائي الذي لم يكتب عن العنف الأخوي أو ذيوله؟ ألم تكن أعمارهم مجرد هروب من نير معركة، لتتلقفهم منازلة غيرها. ومن ترك لبنان بقيت له في القلب غصة وفي الوطن عائلة. لا تزال مسرحيات زياد الرحباني وأغنياته التي صاغها تحت نير القذائف زادا لمحبيه، وعبارات نبذ الطائفية التي رددها جبران خليل جبران صالحة ومطابقة لواقع الحال. لكن النسمات الأدبية، وإن خاطبت الوجدان، لا تكفي وحدها لتقوّم العقل وتقيه من الجموح الغرائزي الوحشي. قراءة التاريخ تعني أيضا استعادة مسار الأحداث بالموضوعية الممكنة ووضعها في إطارها الوطني ومحيطها العربي، وتعقيداتها الدولية. فعبارة «تنذكر ما تنعاد» التي يعشق تكرارها اللبنانيون، حين يتكلمون عن الحرب، لم تكن كافية، يوما، لمنع الانزلاق من جديد، إلى هاوية الانتحار العبثي.
خدع العرب حين صدقوا المقولات اللبنانية التي تروج لفرادة حالتهم، واستثنائية تعدديتهم. جاءت الحرب اللبنانية بعد وصول التنظيمات الفلسطينية إلى بيروت، إثر أحداث «أيلول الأسود» الدموية، وقبل بدء محادثات «كامب ديفيد» واندلاع الحرب العراقية - الإيرانية، بسنوات قليلة. لم تكن حربا داخلية مقطوعة من شجرة، ولا لقيطة في محيط، يضطرم بعد نكبة عربية كبرى، ونكسة مدوية، وحرب تشرين التي بدأ ينقلب نصرها إرباكا. لم تكن الطائفية إلا وقودا جاهزا لإضرام النار فيها، وإحراق حيوية مدنية فياضة تغلي طموحا.
بدا للعرب طويلا هذا اللبنان كوطن استثنائي في شغبه وجنوحه، وميل ناسه إلى التقاتل، لعلهم لم يصدقوا أنه نموذج جهنمي صالح للاستنساخ في كل دول الجوار، وأن اللبننة يمكن أن تصبح «عرقنة» و«سورنة»، و«يمننة» أيضا. فعدد المائة والخمسين ألف قتيل في بلاد الأرز، صار مليونا ونصف المليون في بلاد الرافدين، وما يصعب إحصاؤه في سوريا أو ليبيا. كانت بليغة المتحدثة باسم أهالي المفقودين اللبنانيين حين قالت إن «حربنا فرخت غابة من الحروب»، وهي تعرف أن عقودا بعد انطفائها لن تكفي لرتق الجراح النازفة، ومداواة الأرواح المتألمة. بتنا نعرف، نحن أيضا، أن الحرب لا تنجب سلما، حين يقرر أهلها الإدمان على اجترار أخطائهم، وتبجيل جزّاريهم والإمعان في تسليمهم رقاب أولادهم. بتنا نعرف أن من لا يصغي لأنين الضحايا وينصفهم، لا يمكنه أن ينعم بالأمن. ومن لا يريد قراءة ماضيه الأسود، ويسقط عنه الأقنعة وستر النفاق، لن يفلح في بناء مستقبل خالص من الدماء. فالحرب كما قال غاندي العظيم، «نكسبها لا بمقدار ما نقتل من خصومنا، وإنما بمقدار ما نقتل في نفوسنا الرغبة في القتل».
البعض يطالب بقانون يحمي القبور من النبش مخافة طمر بقايا الأحبة، وثمة من يريد فحصا لحمضه النووي يحفظ في المختبرات، خشية الموت قبل عودة المفقود أو العثور على أثر له، وتعذر معرفة صحة نسبه.
بعد ما يقارب النصف قرن لم يفلح اللبنانيون، في جعل حربهم اللعينة مجرد ذكرى لاستخلاص العبر، كما هي حال الأوروبيين مع حربيهم الأولى والثانية. فأهالي المفقودين الذين يعتصمون أسبوعيا حاملين صورا قديمة لأطفال وشبان من المفترض أنهم كبروا عقودا، للتذكير بقضيتهم، قرروا هذه المرة أن يطلقوا حملة بعنوان «حقنا نعرف»، لأربعين يوما، تضمن نشر صورٍ، في كل لبنان، تسأل عن مكان اختفاء أولادهم، وعن سبب صمت اللبنانيين وغياب المسؤولين. يكاد أهالي المفقودين يتحولون، لكثرة ما اعتصموا وصرخوا، إلى فلكور وطني رغم عظم مأساتهم، ومع أنهم المهماز الذي يفترض أن يذكّر بأن الحرب لم تنته، وأن النقطة الأخيرة لم توضع على السطر بعد.
17 ألف مفقود، لا هم في عداد الأحياء ولا الموتى، لا تزال عائلاتهم تبكيهم، ومع ذلك فإن جيلا لبنانيا بأكمله اليوم، لا يعرف عن تلك الحرب المجنونة، سوى ما شاهده عابرا على الشاشات أو ما سمع عنه شفاهة. يقف كتاب التاريخ المدرسي عند حقبة الاستقلال ورجالاتها العظام، ويصمت عما تلاها، من فشل سياسي أدى إلى هلاك ودمار، لا يزال شبحه شاهرا أنيابه. كتاب التاريخ الفرنسي له جرأة الوصول إلى الرئيس الحالي فرنسوا هولاند، يعدد الحقب والرؤساء، يتحدث عن سياساتهم واستراتيجياتهم، أين أخطأوا وكيف أصابوا؟ ما هي إنجازاتهم وإخفاقاتهم؟ ثمة قراءات علمية متاحة دائما، حين يكون العقل فطنا، حتى لأكثر الكوارث الوطنية إثارة للجدل. حذف الحرب من المناهج، لا يعني أنها لم تمر من هنا، بل إنها مقيمة بيننا، ولا شيء يمنع أن تستيقظ وتفترسنا في لحظة طيش.
الإصرار الشديد والملحاح على الاحتفاء بـ«التعاضد» دون القبول بقراءة نقدية وصريحة للعقود الأربعة الماضية، يجعل الحرب الأهلية سكينا مغروسة في القلب، تحركها يد المكر متى شاءت، وتعفّ عنها متى أرادت. يركض اللبنانيون معا، وسط بيروت، كل سنة، من أجل السلام واستعادة اللحمة، ينشدون جيشهم الذي استعادوه بدمائهم، أجمل القصائد، تؤرشف جمعياتهم مجازر الحرب، وتجمع صور ضحاياها، وشهادات الناجين، يكتب سياسيوه مذكراتهم ليخفوا أكثر مما يعترفون. لم يخرج السينمائيون والروائيون من تيمة الحرب، جزئيا، إلا في السنوات الأخيرة، وليعودوا إليها، مرغمين، تحت وطأة النيران المجاورة التي تزنرهم. بقي بؤساء الموت والتهجير، هم أبطال الأفلام من مارون بغدادي، مرورا بزياد دويري وصولا إلى «ليال بلا نوم» لإليان الراهب، و«هلأ لوين» للبديعة نادين لبكي. الحرب الطويلة والمديدة سطت على أخيلة الروائيين وغزتها، حتى كأنه لم يعد لهم من قضية غيرها. من هو الروائي الذي لم يكتب عن العنف الأخوي أو ذيوله؟ ألم تكن أعمارهم مجرد هروب من نير معركة، لتتلقفهم منازلة غيرها. ومن ترك لبنان بقيت له في القلب غصة وفي الوطن عائلة. لا تزال مسرحيات زياد الرحباني وأغنياته التي صاغها تحت نير القذائف زادا لمحبيه، وعبارات نبذ الطائفية التي رددها جبران خليل جبران صالحة ومطابقة لواقع الحال. لكن النسمات الأدبية، وإن خاطبت الوجدان، لا تكفي وحدها لتقوّم العقل وتقيه من الجموح الغرائزي الوحشي. قراءة التاريخ تعني أيضا استعادة مسار الأحداث بالموضوعية الممكنة ووضعها في إطارها الوطني ومحيطها العربي، وتعقيداتها الدولية. فعبارة «تنذكر ما تنعاد» التي يعشق تكرارها اللبنانيون، حين يتكلمون عن الحرب، لم تكن كافية، يوما، لمنع الانزلاق من جديد، إلى هاوية الانتحار العبثي.
خدع العرب حين صدقوا المقولات اللبنانية التي تروج لفرادة حالتهم، واستثنائية تعدديتهم. جاءت الحرب اللبنانية بعد وصول التنظيمات الفلسطينية إلى بيروت، إثر أحداث «أيلول الأسود» الدموية، وقبل بدء محادثات «كامب ديفيد» واندلاع الحرب العراقية - الإيرانية، بسنوات قليلة. لم تكن حربا داخلية مقطوعة من شجرة، ولا لقيطة في محيط، يضطرم بعد نكبة عربية كبرى، ونكسة مدوية، وحرب تشرين التي بدأ ينقلب نصرها إرباكا. لم تكن الطائفية إلا وقودا جاهزا لإضرام النار فيها، وإحراق حيوية مدنية فياضة تغلي طموحا.
بدا للعرب طويلا هذا اللبنان كوطن استثنائي في شغبه وجنوحه، وميل ناسه إلى التقاتل، لعلهم لم يصدقوا أنه نموذج جهنمي صالح للاستنساخ في كل دول الجوار، وأن اللبننة يمكن أن تصبح «عرقنة» و«سورنة»، و«يمننة» أيضا. فعدد المائة والخمسين ألف قتيل في بلاد الأرز، صار مليونا ونصف المليون في بلاد الرافدين، وما يصعب إحصاؤه في سوريا أو ليبيا. كانت بليغة المتحدثة باسم أهالي المفقودين اللبنانيين حين قالت إن «حربنا فرخت غابة من الحروب»، وهي تعرف أن عقودا بعد انطفائها لن تكفي لرتق الجراح النازفة، ومداواة الأرواح المتألمة. بتنا نعرف، نحن أيضا، أن الحرب لا تنجب سلما، حين يقرر أهلها الإدمان على اجترار أخطائهم، وتبجيل جزّاريهم والإمعان في تسليمهم رقاب أولادهم. بتنا نعرف أن من لا يصغي لأنين الضحايا وينصفهم، لا يمكنه أن ينعم بالأمن. ومن لا يريد قراءة ماضيه الأسود، ويسقط عنه الأقنعة وستر النفاق، لن يفلح في بناء مستقبل خالص من الدماء. فالحرب كما قال غاندي العظيم، «نكسبها لا بمقدار ما نقتل من خصومنا، وإنما بمقدار ما نقتل في نفوسنا الرغبة في القتل».
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق