الأحد، 19 أبريل 2015

منام صيني


لفتت نظري حكاية صينية قديمة تقوم على المفاضلة بين اليقظة والمنام. نحن نعرف إنّ عالم اليقظة هو، إلى حدّ ما، ملك لنا، وقد نتحكم في بعض تفاصيله، نزيد نقطة هنا، نعدل من صياغة مسارٍ هناك. أما المنام فهو حرّ طليق لا يأبه لرغباتنا أحياناً، وقد يكون نوعاً من تصفية حساب معيّن مع اليقظة. صلاحيّات المنام واسعة، وهو لا يسلس قياده دائماً لرائيه، قد يكون شموساً حروناً وبطّاشاً، فنلصق به كلمة "كابوس". والكابوس مفردة موحية تفصح عن الأثر المادّي لمجريات أحداثه. إنّه يكبس المرء كبساً يحبس الأنفاس، وهو شديد الصرامة إلى حد أن المرء من شدة الألم الذي يعانيه أو الخوف الذي يدبّ في تفاصيل نومه يهرب بكل معنى الكلمة عبر الزحف اللاهث إلى برّ اليقظة. يظلّ المرء في بداية يقظته للحظات معدودات أسير ما رأى من هول، يكده العرق من عنف كوابيسه، تختلط عليه الأمور فلا يعود يعرف "أفي علم هو أم في حلم" بحسب العبارة المألوفة، أي أنّ الحدود الرخوة أصلا بين العالمين تكون قد تبعثرت على فراش نومه.

راوي حكاية هذا الصراع بين العالمين كاتب بل فيلسوف صيني يعتبر الشخصية الثالثة في الفلسفة الطاويّة بعد شخصيتين فذّتين هما "لاوْ تْزِهْ" و" تْشْوانْغْ تْزِهْ". اسم كاتب الحكاية "لْيِهْ تْزِهْ"، وهي مقارنة بين حياتين: حياة رجل غنيّ موفور الثراء، وحياة عبد عجوز وديع يمتلكه هذا الغنيّ، وهو غني متعجرف جبار لا يرأف بعبيده. كان الناس يستغربون الحياة الناعمة الهانئة التي يعيشها هذا العبد العجوز على علاّت عيشه. كان العجوز لا ينتهي من عمله إلا بعد مغيب الشمس حيث يعود إلى غرفته مكسّر الجسد، مهدود الحيل، ولكن ما إن يضع رأسه على مخدّته الرثّة حتى يستغرق في نوم لذيذ عميق، وهو لذيذ ليس لأنّ في النوم لذة غير منكورة ولكن لأن في منامات هذا العجوز لذّة تمحو عذابات يقظته. منامات على نقيض حياته، منام واحد في عمومياته يتكرر كل ليلة فهو ينتقل، بإغفاءة طرف، من حيّز العبودية إلى حيّز الحرّية، وتنقلب ادوار حياته كليا، إذ يرى نفسه ملكا على عالم واسع الأرجاء يشبه المدينة الفاضلة، لا يحرم من شيء على الإطلاق، رغباته كلّها دانية القطوف.

رآه شخص في أحد الأيام فوجعه قلبه عليه، وأراد أن يواسيه على تحمل مشقة اليقظة الكادحة في قصر الغنيّ. ولكن العجوز قال له: إن سنوات عمر الإنسان ولو عاش مائة سنة مقسومة قسمة عادلة، ثمة ليل وثمة نهار، ثمة يقظة وثمة نوم، وأنا حياتي مقسومة قسمة لا أراها سيئة على الإطلاق، صحيح أنني في يقظتي عبد مأمور يهدّ حيلي، كما ترى، العمل المضني، ولكن في ليلي أنا ملك قدير، وآمر غير مأمور، لا تردّ لي رغبة، أو يرفض لي طلب، وليس لمتعة مناماتي حدود إلا اليقظة. فلماذا أشكو منها ما دامت المنامات تعوضني عن اليقظة المرة، وتوفر لي كل مستلزمات رغباتي؟ حلاوة الليل تؤازرني في تحمّل طعم النهار المرّ.

وبالمقابل كان الغني خلال نهاره يعيش ترف الأغنياء وملذاتهم وهمومهم أيضاً. نهاره مليء بالأعمال، ولكن العمل أضناه، وهو حين ينام كانت تنقلب حياته رأسا على عقب. يرى في منامه، كلّ ليلة، أنّه عبد أجير، وهو عبد كسول خامل في مناماته بحيث إن صاحبه لا يكفّ عن توبيخه ولعنه وضربه. كان وهو نائم يخرج من بين شفتيه نحيب مخنوق، وكان لا يجد فرصة للتحرر من عذابات مناماته إلا حين يفتح عينيه. كان لسان حاله يقول ما لا يقوله الناس:" ما أضيق العيش لولا فسحة اليقظة!".لا مفرّ من النوم، سلطانه جبّار لا يقاوم، وهكذا كان الغنيّ في كل ليلة مجبوراً، كسرا عن رأسه، أن يدلف إلى عالم العبودية والمهانة المناميّة التي لا تطاق.

استشار في أحد الأيام أحد أصدقائه، بعد أن ساء وضعه وازدادت عذاباته من مناماته القاهرة التي تخضّ حياته خضّاً عنيفاً، لعلّ هذا الصديق يساعده على التخلص من كوابيسه التي تقضّ مضجع لياليه. قال له صديقه:أنت غني، لا تحتاج لشيء، والناس يركضون لخدمتك ركضاً، ولكن في المنامات ثمة تحولات عنيفة تنسف أفراح يقظتك. وهذا يا صديقي من طبيعة الأشياء.لا بد من أن تتناوب الحلاوات والمرارات على حياة المرء، ولا تخلو حياة من مرارة، وفي حال خلوّ يقظة المرء فعلاً من المرارات فإن الحياة تعمل على إعادة التوازن بطريقتها الخاصة، وقد تستعين بالمنامات لإنجاز ذلك، فلا شيء يمنعها من الاستعانة بأيّ موجود حتّى ولو كان مناماً لا يملأ عين أحد.
راح الغنيّ إثر سماعه كلام صديقه يعدّل من سلوك يقظته الصارمة وكم كانت دهشته حين رأى أنّ ثمّة تعديلات بدأت تطرأ أيضاً على تفاصيل مناماته!.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق