يظنّ
المرء أنه يرى ما يرى ولكن ينتبه فيما بعد إلى انه لا يرى ما يراه لأن الواحد ليس
واحداً، الحدث الواحد هو كتلة أحداث متراكمة، تماماً كما أن للكلمة الواحدة دلالات
متكاثرة بعضها ظاهر وبعضها مضمر وليس لها دلالة واحدة عاقرة. ومن يكتفي بدلالة
واحدة للحدث المفرد يشبه من يريد أن يرى العالم بعين واحدة يدبّ في جفنيها النعاس.
سوف
أسرد، لتوضيح ذلك، حكاية صينية رواها المفكر الطاويّ " لْيِهْ تْزِهْ"،
وهذا الرجل يشكّل الضلع الثالث في مثلّث
الفلسفة الطاوية بعد المؤسس "لاوْ تْزِهْ " و" دْجْوانْغْ تْزِهْ
" الذي يعتبر في نظر نقّاد الصين الناثر الأجمل بين
الناثرين الصينيين. وهي حكاية ذات نصلين حادّين لأنها تتكلم على مصيرين
مختلفين أنجبهما درب واحد، وهي تشبه ما يسمّى في العربية بـ" الأضداد
اللغويّة "
أي المفردة الواحدة التي لها معنيان هما على طرفي نقيض.
تقول
الحكاية إنّ أحد سكان مملكة " لو" كان له ولدان، الأوّل كرّس أوقاته
للقلم أما الثاني فكرّس حياته للسيف. حين اكتملت أدوات المعرفة في يد محب العلم
ذهب إلى إحدى الممالك الصينية ( وكانت الصين في ذلك الزمن على شاكلة العالم
العربي، اليوم، مقطعة الأوصال وبرؤوس كثيرة)، عرض العالم المتبحّر خدماته ومعارفه
على الحاكم الذي أعجب بمؤهلاته العلمية
فاتخذ منه مربّياً لبنيه. أما مُلاعب الأسنّة فذهب إلى مملكة أخرى وعرض أيضاً
خدماته ومهاراته القتالية على الحاكم فنالت مهارته إعجاب الحاكم فأدخله في جيشه
ثمّ ما لبث أن عيّنه قائداً عسكرياً لجيشه. كان مدخول الولدين ممتازاً، وكان كل
منهما يرسل إلى والديه ما يفيض عن الضرورة. فاغتنت العائلة وصارت من وجوه مملكة
" لو".
كان
للرجل جار فقير له، أيضاً، ولدان: الأوّل محبّ للعلم والثاني من مهرة الفرسان، ذهب
الرجل للقاء جاره والاستفهام عن سرّ التغيير الذي طرأ على حياته ولم يكذب الجار
خبراً. روى الأمور كما حدثت بلا زيادة أو نقصان.
نصح
الأب ولديه بأن يحذوا حذْو ولدي جارهما. سعى الولد المتأدب إلى إحدى الممالك وعرض
خدماته العلمية على ملكها. ولكن الملك قال للرجل : الملوك، في هذا الزمان، يضعون
كل طاقاتهم في الحروب وتقوية جيوشهم، وإذا أردت أن أقيم مملكتي على أسس المحبة
والعدالة فإنّي أكون كمن يسعى إلى حتفه بظلفه. لم يكتف الملك بذلك بل قرّر عقاب من
يسير عكس طبيعة الحياة القائمة على الصراع
فأقدم على معاقبة الداعي إلى السلام عقابا كان سائداً في الصين آنذاك وهو
الإخصاء لقطع ذرّيّة دعاة السلام. أما رجل السيف فكان قد توجه إلى مملكة أخرى فقال
له الملك: إنّ مملكتي ضعيفة، وهي محاطة بدول كبرى لذا قرّرت أن أخدم الدول الكبرى
وأساعد الدول الصغرى. وهكذا أسير في درب السلام وأحفظ رأسي، لأني إذا اعتمدت على
سلاحي فإنّي أكون كمن يرمي بنفسه بين فكّي الأسد. ولكن الملك فكّر قليلاً ثم قال
لنفسه: هذا الرجل ماهر في وضع الخطط الحربيّة، وقد يعرض خدماته على مملكة أخرى ثم
يكون في ذلك مجلبة لضرر، على مملكتي، كبير، فما كان من الملك إلاّ أن أمر بقطع
رِجْلَي الرجل حتّى لا يسعى على قدميه في دروب الدم
ثمّ أطلق سراحه الكسيح.
حين وصل الولدان إلى أبيهما ورأى ما حدث لهما
راح يبكي كما راح الولدان يصبّان اللعنات على جارهما الذي دفعهما إلى المهالك. ذهب
الوالد إلى جاره ليروي له تفاصيل نصيحته والبلاء الذي حلّ عليه وعلى ولديه من
جرّاء هذه النصيحة الدامية. قال الرجل:
"حين تكون الظروف ملائمة يكون النجاح حليفاً، وفي حال العكس لا ينتظرنا إلاّ
الخراب. الطريق التي مشاها ولداك هي الطريق نفسها التي مشاها ولداي ولكن نهاية
الطريق لم تكن واحدة "، وتابع الرجل قائلاً: " لا يوجد أيّ مبدأ يكون
صالحاً على مدار الأوقات والظروف، وليس هناك عمل واحد يمكن أن نقول إنّه سيء في
كلّ الأحوال". ويبدو أنّ المبادئ لا تختلف عن الموضة التي ترفع أو تخفض وفق
قانون غريب الأطوار. فما هو مرغوب اليوم قد لا يكون مرغوباً في الغد. تبدل الظروف
يبدل أيضاً المبادئ. الثبات ألعوبة ماكرة. وتابع الرجل قائلاً:" الحياة، يا جاري، رصد للفرص". وبالمناسبة في
العربية مثل يلخّص هذه الفكرة يقول: " من انتهز الفرص أمن الغصص" . ختم الرجل بقوله: "على المرء أن يكون
كالماء في إناء الظروف والماء ليس على خصام مع أي ظرف.
ولكن الإناء على خصام مع الماء حين يصير الماء ثلجاً. هنا سرّ المهارة، والمسألة
ليست مسألة حظّ أو نصيحة، وإنّما مسألة أوقات وأماكن".
تقبّل الأب المقهور على مصير ولديه كلام جاره،
وحطّ الحقّ على عينيه وعيون ولديه، وأيقن أن المؤهلات بذرة لا تصلح للزرع في كلّ
تربة، ولكن ثمّة تربة في مكان ما صالحة وقابلة لاحتضانها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق