هناك من يحبّ ان يعقّد الأمور، وهناك من يحبّ ان يبسّطها. أميل الى المبسّط، السهل،
السلس، وأجد في الغموض نوعاً من الخبث واللعب على الحبال. أحياناً أقرأ أشياء فأقول
هذا كلام يحتاج الى منجّم مغربي لفك دلالاته لما فيه من إلغاز وتعمية، وأحياناً
أقرأ أموراً شديدة البساطة والعمق في آن، منها تعريف لطيف وكثيف للفلسفة. إذ سئل
مرّة حكيم من حكماء الهند عن الفلسفة، وما هي؟ فما كان منه إلاّ ان أجاب إجابة
متقشّفة تنمّ عن فهم عميق للحياة وهي التالية: «الفلسفة هي ان يحسن المرء استخدام
واو العطف». قد لا يعترف بهذا التعريف كثير من دارسي الفلسفة باعتبار ان بساطته لا
تليق بمقام الفلسفة. ونحن نعرف ان كلمة فلسفة مكروهة في بلادنا، ومن أدلّة
الاستخفاف بها انحدار استعمالها في الكلام اليومي الى مرتبة يتبرّأ منها من يعتبر
نفسه عاقلاً. فإذا قلنا عن شخص أنه «متفلسف» فهذا يعني أنه شخص كلامه سمج، وثقيل
على السمع، ومنفّر. فالمرادف اللغوي العامّي لعبارة «عم يتفلسف» هو «عم ياكل
هوا»!.
ولا أعتقد ان كلمة الفيلسوف الهندي تنتسب الى هذا الهواء! حين قرأت هذه العبارة الهندية، قفزت الى ذهني عبارة عربية في تعريف البلاغة، وهي ان البلاغة «معرفة الفصل من الوصل» أي معرفة اللحظة التي تسمح لنا ان نربط او ان نفصل بين الأشياء والعناصر. نلحظ هنا ان البلاغة، من هذا المنظور، ليست بعيدة تماماً عن النظرة الهندية، ولكن أحبّ الاشارة الى ان تعريف البلاغة هنا ليس تعريفاً عربياً محضاً، وإنما هو تعريف منقول عن اللغة الهندية بحسب ما يرد في كتب البلاغة.
هذه المقدّمة مدخل للكلام على الدعاية ووصلها بالثقافة والغناء، ومدخل للكلام على التجارة ووصلها بالأدب والشعر والنغم (بمعنى البحث عن واو العطف) أي مدخل للفت النظر الى إمكانية بناء شبكة علاقات بين جملة من الأمور لا يربطها أحياناً، من حيث الظاهر المراوغ، أي رابط.
قد يذهب البعض الى استغراب ان تزجّ البلاغة بكل مهابتها في ميدان الدعاية والإعلان، وكأن الإعلان، في زمن طغيان الاعلان، حرف ساقط. ألفت النظر هنا الى ان المعنى الأول للبلاغة، هو بلوغ الغاية عن طريق الإقناع، والتأثير في نفس المستهلك المتعدد والمتنوع، وعليه أليس جوهر البلاغة إعلانياً؟ قد يكون الأمر متعلقاً باستهلاك الأدب او الفن او أية سلعة من السلع. فكل مخلوق، في النهاية، حيوان مستهلك. ولا مفرّ من الاعتراف بأن الأدب وكلّ متفرعاته وامتداداته سلعة يفترض بها ان تكون قابلة للاستهلاك. واستثمار الفن اقتصادياً ليس عيباً او مسّاً بكرامته، كما ان الاتجار بالثقافة ليس هدراً لكرامتها او انتهاكاً لدمها الأزرق!.
وهنا سأتوقف عند حكاية تراثية تظهر كيف يمكن للأدب اذا اقترن بالغناء والقصد الإعلاني ان ينقذ تاجراً بضاعته كاسدة ليس لأنها غير جيدة وإنما لأنه ليس لها راغبون، أي كيف يمكن ان يكون للأدب دور اقتصادي فاعل، دور في إنتاج الرغبة؟. على الأدب ان يلعب دوراً اقتصادياً وليس عليه ان يخجل من ذلك. الحركة الاقتصادية الواعية لا تقصي أحداً. والقصة التي سوف أسردها هي من تراثنا العربي القديم، وهذا مكمن طرافتها الواعية لقيمة «واو العطف» في تغيير مصائر الأشياء.
يُروى ان الشاعر مسكين الدارميّ كان قد اعتزل الشعر وقرر ان يمضي ما تبقّى له من عمر في النّسك والعبادة، بعد ان كان من الشعراء المعروفين بالظرف والتهتك والخلاعة إلاّ ان الأقدار تلعب أحياناً برغبات الناس وقراراتهم بألف حيلة وحيلة. غاية نبيلة جعلت الشاعر المعتزل يخون زهده وعزلته حين رمته المقادير بين يدي تاجر قماش يندب حظه العاثر بعد ان كسدت بضاعته المؤلفة من خُمُر سود، وللألوان تأثير خلاب على ترويج الأشياء او كسادها كما على أسعارها. كان اللون الأسود، في زمان التاجر، عائقاً أمام تسويق الخُمُر، فاستنجد التاجر بالشاعر المعتزل مسكين الدارميّ الذي استعاد خياله نشاطه، هذه المرة، لتسويق ما كسد. ليس للشاعر من حيث المبدأ خبرة في التجارة او في ترويج البضاعة، ولكن الشاعر يمتلك القدرة على التأثير في أفكار الناس وشهوات الناس، وإلاّ ما معنى «إن للبيان سحراً»؟ رغب الشاعر في مساعدة التاجر، وغالباً ما يسخر التجّار من الشعراء الذين لا يحسنون التعامل مع الحياة العملية. مساعدة التاجر تتطلّب التخلي عن الزهد والنسك، فتخلى مسكين الدارميّ، وإن بشكل مؤقت، لفك ضيقة التاجر، عن الزهد وملازمة المسجد، وراح يستعيد كلماته القديمة، ويوقظ شاعريته الهاجعة في روحه وألّف مقطوعة شعرية وأرسلها لصاحب له من مشاهير المغنّين، واشتهرت الأغنية على ألسنة الناس، فلم تبق فتاة، بعد سماع الأغنية، إلاّ ومُناها الاتشاح بخمار أسود اللون، لأن الشاعر الزاهد استطاع، بحنكته الشعرية، ان يمنح اللون الأسود دلالة جديدة، وملاحة لم تكن له، ويغيّر من نظرة الحسان الى الألوان. وللشعر مقدرة كيميائية، كما يقال، على تحسين القبيح وتقبيح الحسن، وتغيير نظرتنا ومواقفنا من بعض الأمور.
ومن حسن حظ هذه الأبيات الشعرية أنها عبرت القرون بسلاسة واستعادت حياتها الفنية، في العصر الحديث، بفضل صوت المطرب العراقي الراحل ناظم الغزالي ولاقت رواجاً لا يزال نضراً الى اليوم، والأبيات هي:
قلْ للمليحة في الخمار الأسود ماذا فعلت بناسك متعبّد؟
قد كان شمّر للصلاة ثيابه حتى خطرت له بباب المسجدِ
ردّي عليه صلاته وصيامه لا تقتليه بحق دين محمّدِ
لقد عرف الشاعر كيف ينقذ بضاعة التاجر من الكساد لأنه أحسن استخدام «واو العطف» بين البضاعة غير المرغوب فيها والشعر والنغم والصوت المرنان (والبلاغة، فيما يبدو، صديق وقت الضيق)، وبين سيرته الشخصية التي ولّدت الصدمة في آذان الناس، الشاعر الذي التزم الصمت والعزلة والزهد، يعود الى الشعر ليس من باب الزهديات المتوقّع (إذ ليس بمقدور شعر الزهد توليد تلك الصدمة الشرائية المطلوبة!) وإنما من باب الغزل غير المتوقّع من ناسك بالملاح.
في أية حال، بين الشعر والدعاية صلة نسب لا ينكرها أحد، فقديماً كان يقال: «أعذب الشعر أكذبه»، والكذب يعني، في سياق الشعر، المجاز. فالمعنى المضاد للحقيقة ليس بالضرورة ان يكون كذباً، فـ«المجاز» هو المقابل لمفهوم «الحقيقة» في العرف البلاغي. والحقيقة ركن قد يستغني فن الدعاية عن خدماته عند الضرورة لصالح الكذب الجذّاب والخلاّب!.
ولا أعتقد ان كلمة الفيلسوف الهندي تنتسب الى هذا الهواء! حين قرأت هذه العبارة الهندية، قفزت الى ذهني عبارة عربية في تعريف البلاغة، وهي ان البلاغة «معرفة الفصل من الوصل» أي معرفة اللحظة التي تسمح لنا ان نربط او ان نفصل بين الأشياء والعناصر. نلحظ هنا ان البلاغة، من هذا المنظور، ليست بعيدة تماماً عن النظرة الهندية، ولكن أحبّ الاشارة الى ان تعريف البلاغة هنا ليس تعريفاً عربياً محضاً، وإنما هو تعريف منقول عن اللغة الهندية بحسب ما يرد في كتب البلاغة.
هذه المقدّمة مدخل للكلام على الدعاية ووصلها بالثقافة والغناء، ومدخل للكلام على التجارة ووصلها بالأدب والشعر والنغم (بمعنى البحث عن واو العطف) أي مدخل للفت النظر الى إمكانية بناء شبكة علاقات بين جملة من الأمور لا يربطها أحياناً، من حيث الظاهر المراوغ، أي رابط.
قد يذهب البعض الى استغراب ان تزجّ البلاغة بكل مهابتها في ميدان الدعاية والإعلان، وكأن الإعلان، في زمن طغيان الاعلان، حرف ساقط. ألفت النظر هنا الى ان المعنى الأول للبلاغة، هو بلوغ الغاية عن طريق الإقناع، والتأثير في نفس المستهلك المتعدد والمتنوع، وعليه أليس جوهر البلاغة إعلانياً؟ قد يكون الأمر متعلقاً باستهلاك الأدب او الفن او أية سلعة من السلع. فكل مخلوق، في النهاية، حيوان مستهلك. ولا مفرّ من الاعتراف بأن الأدب وكلّ متفرعاته وامتداداته سلعة يفترض بها ان تكون قابلة للاستهلاك. واستثمار الفن اقتصادياً ليس عيباً او مسّاً بكرامته، كما ان الاتجار بالثقافة ليس هدراً لكرامتها او انتهاكاً لدمها الأزرق!.
وهنا سأتوقف عند حكاية تراثية تظهر كيف يمكن للأدب اذا اقترن بالغناء والقصد الإعلاني ان ينقذ تاجراً بضاعته كاسدة ليس لأنها غير جيدة وإنما لأنه ليس لها راغبون، أي كيف يمكن ان يكون للأدب دور اقتصادي فاعل، دور في إنتاج الرغبة؟. على الأدب ان يلعب دوراً اقتصادياً وليس عليه ان يخجل من ذلك. الحركة الاقتصادية الواعية لا تقصي أحداً. والقصة التي سوف أسردها هي من تراثنا العربي القديم، وهذا مكمن طرافتها الواعية لقيمة «واو العطف» في تغيير مصائر الأشياء.
يُروى ان الشاعر مسكين الدارميّ كان قد اعتزل الشعر وقرر ان يمضي ما تبقّى له من عمر في النّسك والعبادة، بعد ان كان من الشعراء المعروفين بالظرف والتهتك والخلاعة إلاّ ان الأقدار تلعب أحياناً برغبات الناس وقراراتهم بألف حيلة وحيلة. غاية نبيلة جعلت الشاعر المعتزل يخون زهده وعزلته حين رمته المقادير بين يدي تاجر قماش يندب حظه العاثر بعد ان كسدت بضاعته المؤلفة من خُمُر سود، وللألوان تأثير خلاب على ترويج الأشياء او كسادها كما على أسعارها. كان اللون الأسود، في زمان التاجر، عائقاً أمام تسويق الخُمُر، فاستنجد التاجر بالشاعر المعتزل مسكين الدارميّ الذي استعاد خياله نشاطه، هذه المرة، لتسويق ما كسد. ليس للشاعر من حيث المبدأ خبرة في التجارة او في ترويج البضاعة، ولكن الشاعر يمتلك القدرة على التأثير في أفكار الناس وشهوات الناس، وإلاّ ما معنى «إن للبيان سحراً»؟ رغب الشاعر في مساعدة التاجر، وغالباً ما يسخر التجّار من الشعراء الذين لا يحسنون التعامل مع الحياة العملية. مساعدة التاجر تتطلّب التخلي عن الزهد والنسك، فتخلى مسكين الدارميّ، وإن بشكل مؤقت، لفك ضيقة التاجر، عن الزهد وملازمة المسجد، وراح يستعيد كلماته القديمة، ويوقظ شاعريته الهاجعة في روحه وألّف مقطوعة شعرية وأرسلها لصاحب له من مشاهير المغنّين، واشتهرت الأغنية على ألسنة الناس، فلم تبق فتاة، بعد سماع الأغنية، إلاّ ومُناها الاتشاح بخمار أسود اللون، لأن الشاعر الزاهد استطاع، بحنكته الشعرية، ان يمنح اللون الأسود دلالة جديدة، وملاحة لم تكن له، ويغيّر من نظرة الحسان الى الألوان. وللشعر مقدرة كيميائية، كما يقال، على تحسين القبيح وتقبيح الحسن، وتغيير نظرتنا ومواقفنا من بعض الأمور.
ومن حسن حظ هذه الأبيات الشعرية أنها عبرت القرون بسلاسة واستعادت حياتها الفنية، في العصر الحديث، بفضل صوت المطرب العراقي الراحل ناظم الغزالي ولاقت رواجاً لا يزال نضراً الى اليوم، والأبيات هي:
قلْ للمليحة في الخمار الأسود ماذا فعلت بناسك متعبّد؟
قد كان شمّر للصلاة ثيابه حتى خطرت له بباب المسجدِ
ردّي عليه صلاته وصيامه لا تقتليه بحق دين محمّدِ
لقد عرف الشاعر كيف ينقذ بضاعة التاجر من الكساد لأنه أحسن استخدام «واو العطف» بين البضاعة غير المرغوب فيها والشعر والنغم والصوت المرنان (والبلاغة، فيما يبدو، صديق وقت الضيق)، وبين سيرته الشخصية التي ولّدت الصدمة في آذان الناس، الشاعر الذي التزم الصمت والعزلة والزهد، يعود الى الشعر ليس من باب الزهديات المتوقّع (إذ ليس بمقدور شعر الزهد توليد تلك الصدمة الشرائية المطلوبة!) وإنما من باب الغزل غير المتوقّع من ناسك بالملاح.
في أية حال، بين الشعر والدعاية صلة نسب لا ينكرها أحد، فقديماً كان يقال: «أعذب الشعر أكذبه»، والكذب يعني، في سياق الشعر، المجاز. فالمعنى المضاد للحقيقة ليس بالضرورة ان يكون كذباً، فـ«المجاز» هو المقابل لمفهوم «الحقيقة» في العرف البلاغي. والحقيقة ركن قد يستغني فن الدعاية عن خدماته عند الضرورة لصالح الكذب الجذّاب والخلاّب!.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق