الجمعة، 24 أبريل 2015

عصافير ماو تسي تونغ




لا أحد ينكر، فيما أتصوّر، عظمة رئيس الصين الأسبق "ماو تسي تونغ毛泽东"، ولا أحد ينكر الدور الذي لعبه في رسم صورة الصين الراهنة، ولكنّ السلطة كالحبّ عمياء. المتشبّث بالسلطة الى آخر رمقٍ من شيخوخته، لا بدّ من أن يقع في سقطات جهنّمية الآثار. لا يمكن أنْ يبقى المرءُ، وهو في "أرذل" العمر، على ما كان عليه من فتاء جسد وعقل على السواء. وماو، في آخر عمره، عاش هذه الحالة كما عاشها من بعده "الحبيب" بورقيبة وغيره من "الأحبّاء".

يمكن للمرء في زمن العجز والشيخوخة أن يطلق أحكاماً "خنفشارية" كما يقال، وأن يمارس الحكم على نمط  لا يختلف كثيراً عن "حكم قراقوش" (وهنا أشير الى أنّ الناقد الراحل شوقي ضيف يرى أنّ كلمة " كراكوز" أو "كركوز"  هي تحريفٌ صوتيٌّ لـ(قراقوش).

لن أحكي عن الثورة الثقافيّة الحمراء ( وهي نقطة سوداء في تاريخ ماو) واسمها يمكن أنْ يحيل إلى اللون الأحمر ودلالاته الامبراطوريّة. ولكن اللون الأحمر، في سياق الثورة الثقافيّة، أقرب ما يكون إلى لون الدم الذي سفكته الثقافة الماويّة الحمراء في ربوع الصين.

 حصدت الثورة الحمراء رؤوس رجالات كبار في الصين، وكادت أن تطيح برأس "دنغ شياو بينغ"  وريث ماو ومُطلق النهضة الاقتصادية والعمرانية الهائلة التي يشهدها "التنين الأحمر" .

ما سبق مقدّمة عن مشهد واحد رأيته في برنامج وثائقيّ عن الثورة الثقافية الحمراء. كان المشهد يتناول المجاعة التي حصدت أرواح الملايين من الفلاحين. وكيف أنّ محاربة المجاعة أو البحث عن إيجاد حلّ لاستئصالها من جذورها كان سبباً لمجاعة أدهى وأمرّ. ما شاهدته كان أشبه بمشهد سورياليّ لم يخطر ببال الرسّام سلفادور دالي أو الكاتب المسرحيّ يوجين يونسكو. يُضحك ويبكي في آن.

 اعتبر الفلاحون أنّ سبب المجاعة هو العصافير التي تنقر حبّات الأرزّ فتقتل شتلات الأرز وهي في مهدها. وهنا، تفتّقت عبقريّة! "ماو" الزراعيّة عن قرار فوريّ. لن يسمح للعصافير بعد اليوم أن تلعب بمصير الصين وبطون الصينييّن. سوف نمنع العصافير من أن تغطّ على ذوقها في حقول الأرز. ولن نتيح لأجنحتها أن ترفرف على هواها. لا بدّ من معاقبة مناقير العصافير. هل من السهل أن يهرب عصفور من الصين، تلك  البلاد الشاسعة التي تُتعب أجنحة العصافير قبل أن تفرّ بريشها من قرار "ماو"؟ القرار بسيط وفعّال. لن نسمح للعصافير بالهبوط في أرض الصين. الفضاء لها والأرض لنا. القرار هو استخدام كلّ الوسائل الصوتيّة المتاحة أمام الفلاّحين لإثارة الذعر في أجنحة العصافير. أمر "ماو" أن يستخدم الفلاّحون في المزارع الطناجر والصحون والملاعق والقرع على الطناجر لإقلاق أجنحة العصافير ومنعها من أن تريح أجسادها الصغيرة على غصون الأشجار، وحرمان مناقيرها الجائعة من التهام حبّات الأرزّ. وهذا ما كان. ما إن يحاول العصفور أن يستريح من عناء التحليق على غصن حتى تكون له الطناجر الصخّابة بالمرصاد والقرع بقوّة لا تحتملها آذان العصافير الصغيرة، فيحلّق العصفور، من ذعره، مجدّداً على أمل الخلاص. تلهث مناقير العصافير من التعب. للمحارب استراحة في الجبهات ولكن ليس للعصافير أن يهدأ لها جناح. تعبت أجنحة العصافير وتعبت أيضاً آذانها. صرت ترى العصفور يتهاوى منهكاً من تعب التحليق والهروب. كنت ترى العصفور يسقط كثمرة نضجت على غصن أمّها. وما يكون من الفلاح إلاّ أن يلملم العصافير المنهكة والقضاء عليه ورميها في الشاحنات التي تحوّلت إلى مقابر جماعيّة للعصافير. رأيت عشرات الشاحنات الممتلئة بالعصافير. عبارة: "هلكت من المشي" رأيتها على الشاشة التلفزيونيّة ولكن مع تعديل بسيط في الصياغة "هلكت من الطيران". الإنسان يستسلم، أحياناً، للموت حتّى يريح نفسه من تعب عاقر لا يحتمل. وهكذا فيما يبدو تفعل العصافير أيضاً.

بعد انتهاء الحملة على العصافير أعلن "ماو" أنّ العام المقبل سيكون عام حصاد وفير. إرتاح بال الفلاّحين، تخلّصوا من شرّه مناقير العصافير.

ولكنّ المفاجأة غير السارّة هي أنّ عدد الذين ماتوا في العام التالي من الجوع كان أضعاف من مات في المجاعة الأولى. هل انتقمت أرواح العصافير من مرتكبي المجزرة؟ المعتقد الصيني، في أيّ حال، يؤمن بمقدرة الأرواح الإنسانيّة وغير الإنسانيّة على اللعب بمصائر الأحياء. السبب في المجاعة الكارثية هو أنّ العصافير لم تكن تكتفي بأكل حبّات الأرزّ؟ فالعصفور، كالناس، لا يصبر على طعام واحد. كان يلقط حبة أرزّ من هنا، وحشرة من هناك. كان يأكل الفائض من الحشرات والديدان. وباختفاء العصافير عاشت الحشرات والديدان عصرها الذهبيّ. لا رقيب ولا حسيب؟ فراحت تلتهم جذور شتلات الأرز. فهلك الزرع وهلك معه الناس. كان العصفور يقيم توازناً طبيعيّاً بالتهامه الحشرات والديدان وعليه يحافظ على نسْل الأرزّ الصينيّ.

لم ينتبه "ماو" إلى وجود الديدان التي تعمل في الخفاء، تحت الأرض، في استراتيجيته العصفوريّة. وما كان لأحد الجرأة في معارضة "ماو" أو لفت نظره إلى خلل محتمل في استراتيجيته. فهو، في نظر "فتيانه الحمْر"، الربّان الذي تنكسر لرغباته وقراراته كلّ الأمواج، وهو، في نظر أتباعه، الزعيم الملهم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
كثيرون لا ينتبهون إلى العلاقة القائمة بين السماء وجوف الأرض، أو الصلة الحميمة التي تربط بين نبع وغيمة، ويتعاملون مع الجذع والأغصان وينسون سلطان الجذور الخفيّة على الجذوع والأغصان. رحل "ماو" ولكن زقزقات العصافير عادت إلى ربوع الصين

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق