رحلة الأمنيات
يبدو أنّه ليس من
مصلحة أحد أنْ تتحقّق أمانيه بكلّ حذافيرها. فالإنسان لا ينظر نظرة شموليّة إلى ما
يمكن أن تفعله أمانيه فيه إذا ما تحقّقت بسبب أنّه قصير النظر حتّى ولو تمتّع
بعيني زرقاء اليمامة أو بعينَيْ نحلة! هذا ما تشير إليه الحكاية التالية التي
يرويها الكاتب الهولنديّ مولتاتولي Multatuli (1820- 1887)، وهو الاسم الفنّي
الذي عرف به الكاتب
Eduard Douwes Dekker، والطريف أنّ اللقب الذي اختاره الكاتب
هو، في الأصل، جملة لاتينيّة تعني: " إنّي تعذّبت طويلاً ". ولا تخلو الحكاية التالية من عذاب بطلها الطويل.
كان عامل فقير
كادح يعمل في قلع الصخور وصقلها. وكان عمله شاقّاً فراح ذات يوم يتأفّف ويتبرّم من
حياته العقيم والتفت إلى السماء متضرّعاً وقائلاً: ليتني كنت غنيّاً لأرتاح من عناء هذا العمل
البغيض الذي يرهق كاهلي، ويكسر ظهري، وأجلس مرتاحاً على مقعد من الخشب الأبنوس
المنجّد بقماش من حرير أحمر أتأمّل العالم. كان يحلم، ومن حقّ الفقراء والأغنياء
على السواء أن يحلموا. بعض الأحلام تترجّل من مخيّلة الناس، وتصير، مع الأيّام،
وقائع وحقائق تمشي في الأرض. يبدو أنّ باب السماء كان مفتوحاً فنزل إليه ملاك من
السماء، وقال له: لا تبتئس، أمنيتك صارت ملك يديك. وما إن فاه الملاك بالحرف
الأخير من جملته حتى كان العامل المرهق في حال غير الحال التي كان عليها، صار ما
تمنّاه، وقبَر الفقر في سابع أرض.
كان ذات يوم جالساً على أريكته التي تمنّاها فإذ بملك البلاد يمرّ بمركبته
الفخمة ويحيط به حرسه الخاصّ، ولفت نظره أنّ مظلّةً من الذهب الخالص تحمي وجه
الملك من ظلّ الشمس فرغب في أن يمنحه الله المُلك ويسلك، في حياته، سلوك الملوك،
وهنا أيضاً وبلمح البصر كانت حياته تتغيّر على وقع أمانيه، فإذ به ملك من الملوك
يعيش في أبّهة وجاه ويسكن في قصر مشيد. وذات يوم مشمس وبينما كان في مركبته يتجوّل
في مملكته العريضة ويحيط به موكبه شعر أنّ اشعّة الشمس قويّة جدّا، وحرارتها تخرق
الأبدان، أحسّ الملك أنّ ملكه كلّه لا يمكنه أن يحميه من بطش الشمس، شعر في قرارة
روحه أنّ الغلبة للشمس لا له، وانّ سلطانه هشّ مقارنة بسلطان الشمس، فعاش كئيباً مهموماً
لأنّه ليس سيّد الأكوان ولا يمكنه أن يخضع الشمس النزقة لسلطانه فرغب أن يحلّ محلّ
الشمس، وهنا أيضاً تجلّى له الملاك وحقق له أمنيته وإذ به، في طرفة عين، شمس مشرقة
على العالم، فانفرجت أساريره من الفرح والزهو، وأحبّ أن يمارس صلاحيّته الشمسيّة
على ذوقه ومزاجه فراح ينثر أشعّته الحارقة لا الدافئة، ويوزّعها وفق هواه النيرونيّ
فأحرق النسل والزرع وراحت ثلوج القطب المصدومة ممّا يحصل تذوي وتذوب إلى أن مرّت ذات
يوم من أمامها غيمة مستهترة لا تقيم لقرص الشمس وزناً فاصطدمت بها أشعة الشمس ولم
تستطع خرقها والنفاذ منها لمتابعة مهمتها الحارقة. ثارت ثائرة الشمس وانتفخت
أوداجها النارية من الغيظ، ماذا؟ أغيمة حمقاء لا قيمة لها تعترض سلطان أشعتي؟ من
الأقوى؟ لماذا تعجز قوّتي عن خرق هذه الغيمة الإسفنجية؟
أسف الرجل لأنه
رغب في أنْ يكون شمساً، اكتشف هشاشة الشمس، خاب أمله الشمسيّ واعترف أنّ الغيمة الرخوة
لها قوة تفوق قوته فتمنّى لو أنّ الله يحوله غيمة. تحوّل الرجل غيمة سابحة في
الجوّ، شعر الرجل بنشوة الانتصار وراح يمارس صلاحياته الغيميّة بقسوة ونزق فغمرت الأمطار
اليابسة وراحت الحيوانات في الصحارى تركض مجنونة من مكان الى آخر لتنقذ نفسها من
هذا الطوفان الجبّار الذي لم يمرّ عليها من قبل، ولا تحسن غرائزها الصحراويّة التعامل
معها. راحت المياه تقلع الأشجار من جذورها، وتجرّ كلّ ما يقع في طريقها إلى أنْ
اعترضتها ذات لحظة صخرة صمّاء عنيدة، يابسة الرأس، لا تبالي بالأعاصير ولا بالمياه
الجامحة فغضبت الغيمة على الصخرة التي تعترض طريق المياه وسبيل الرغبة. إنّ هذه
الصخرة أقسى من رغبتي وها هي تسخر من سلطاني. لا أريد أن أكون غيمة، قال الرجل وهو
في صورته المائيّة، أريد أن أكون كالصخرة التي انتصرت على الغيمة العاتية. وبالفعل
صار الرجل صخرة لا تؤثر فيها حرارة الشمس ولا هجمة المطر. شعر الرجل بفرح غامر بعد
أن صار يملك صلابة الصخر، إلى أنْ جاء ذات يوم رجل يحمل مطرقةَ حديدٍ ضخمة الرأس
تساعده في تفتيت الصخر وقلعه. وراح الرجل يحفر في جسد الصخرة الصّلْبة أخاديد
عميقة تمهيداً لقلعها، جنّ جنون الصخرة. قالت صارخةً : من هذا الرجل الذي يعتدي
على جسدي الصخريّ ويمزّق أحشائي؟ لا شكّ في أنّه أقوى منّي. إنّني أريد أن أكون
ذلك الرجل، وفي غمضة عين كانت الصخرة رجلاً يعمل في قلع الصخر.
الرجل لا يختلف
أبداً عن الرجل الأوّل ذي الأمنيات الكثيرة. تروي الحكاية أنّ الرجل الذي نراه في
المشهد الأخير هو نفسه الرجل الذي نراه في المشهد الأوّل، ولكن بفارق ملحوظ ودالّ في
قسمات الرجل الأخير وهي قسمات تنمّ عن رضى بخلاف قسمات الرجل في المشهد الأوّل
الذي حفر فيها عدم الرضى أخاديد من القهر والكآبة. العمل واحد ولكنّ النظرة إلى
العمل ليست واحدة إذ بين النظرتين فجوة سحيقة من الأمنيات، وأيّ أمنيات!
بلال عبد الهادي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق