نفتخر بأنّنا أعضاء في الفرنكوفونيّة، ونفتخر بأنّنا نحسن الإنجليزيّة، ويتباهى البعض منّا بأنّه لا يقرأ العربيّة، وإنّما يكتفي بالفرنسيّة أو الإنجليزية أو غيرهما من اللغات.
سأتناول وجهة نظر بسيطة وأستعيرها من "البيت والسيارة"، أقصد بالبيت "اللغة الأمّ" وبالسيارة لغة الآخر.
الإنسان لا يمكن له أن يعيش اليوم بلا سيّارة، حتّى ولو كانت سيّارة أجرة، كلّنا نستعمل السيارة، وكلّنا نسكن في بيوت حتّى ولو كانت كوخاً أو خيمة. ولا أعرف لماذا ربط العربيّ، قديماً، بين البيت والكلام، ليس أيّ نوع من الكلام وإنّما الشعر تحديداً، الذي كان "ديوان العرب"، والمقصود بذلك أنّه أكثر من شعر، فهو تاريخهم الحيّ، المنطوق والمعلّق، كما تقول بعض الروايات، على جدران الكعبة. لقد تمّ الربط من نواح كثيرة- وهو أمر يستحقّ أنْ يدرس اجتماعيّاً ونفسيّاً وحضاريّاً- بين الشعر/اللغة والمسكن. كان "بيت" الشعر "بيت" العرب، ونظرة بسيطة على مصطلحات "علم العروض" تكشف كيف أنّه استلّ أغلبها من خيطان خيمته. وللفيلسوف الألمانيّ هايدغر كلمة تصبّ في المصبّ نفسه وهي "أن اللغة الأمّ بيت الإنسان ومأواه".
فكيف نتعامل، راهناً، مع لغتنا؟ نعاملها باحتقار شديد، وكأنّها لغة لقيطة. اسمع الصغار الذين يقولون:" نحن لا نحبّ أن نقرأ بالعربيّ، نقرأ بالفرنسيّ أو الإنجليزيّ". وكأنّ القراءة بالعربيّة "دقّة قديمة" أو مسبّة أو معرّة، علماً أنّ الذي يحسن القراءة لا يقرأ إلاّ من طرف شفتيه أو عينيه فما بالك بمن لا يحسن القراءة أصلاً!
أعرف تماماً أنّه من الضرر الاكتفاء بلغتنا الأمّ، فنحن نحتاج إلى إتقان لغات الآخرين، لأنّها ضرورة حياتيّة وبراغماتية وحضاريّة ماسّة، ولكن كيف؟ إنّ أي علاقة مع أيّ لغة من اللغات إن لم يَحْدُها هدف وطنيّ تكون علاقة غير سويّة. وأنا أعرف أنّ علاقتنا غير سويّة مع كلّ اللغات بما في ذلك لغتنا الأمّ. إنّ من لا يرى قيمة في لغته، أياً كان واقع لغته اليوم، كمن يقول وهو يقف أمام المرآة: أنا إنسان لا قيمة لي. كلامي عن لغتي لا يمكن إلاّ أن يكون كلاماً عن نفسي. ومع هذا يمكن أن ترى من يقبّح من لسانه العربيّ وهو يعتقد أنّه ملك جمال الكون رغم أن ملامح وجهه لا تختلف عن ملامح وجه مايكل جاكسون التي شوهّتها "عمليات التجميل"!
من الضروريّ أن أعرف كيف أتعامل مع اللغات الأخرى. أعرف كيف استعملها كسيارة لتوصيلي إلى بيتي أي إلى لغتي، إنّ أيّ علاقة مع أيّ لغة أخرى غير لغتي على حساب لغتي هو خلل في ذاتي. إنّ من يفضّل لغة غيره على لغته كمن يفضّل أمّ غيره على أمّه الحقيقيّة، وهو، حكماً، ولدٌ عاقّ. والعقوق اللغويّ أحد أسباب ترقّق عظم الواقع العربيّ وفقر دمه.
إنّ تفضيل لغة غيري على لغتي مثير للشفقة، لأنّه شرخ في الروح يحتاج إلى علاج نفسيّ. وأنا أعرف تماماً أنّنا مجتمع غير متّزن أو متوازن، على أكثر من صعيد. نعيش في لحظة يختلط الوحل فيها بالماء الزلال. نعيش في لحظة حضاريّة عكرة، ملوّثة، وطائشة.
لا أعرف ما الوسيلة التي تحرّر ألسنتنا وعقولنا المعقدّة والمعقودة إلاّ الحلّ اللغويّ اليابانيّ، الذي جعل الأمّية في "خبر كان"، والثنائيّة اللغويّة من صميم الحياة اليوميّة ولكنْ بمهارة يابانيّة أرجو أن نكتسب سرّها. كلّ يابانيّ يتقن لغة أخرى، من غير أنْ يرطن بها، في الطالع والنازل، وليس بالضرورة أنْ تكون اللغة الإنجليزيّة، لأنّ النظام التعليميّ في اليابان يتيح للطالب اختيار لغته الثانية. وهذا جزء من استراتيجيّة اليابان البراغماتيّة الهادفة إلى تعدّد المصادر اللغويّة، وثمّة متخصّصون في كلّ اللغات، ينقلون منها إلى لغتهم نقلاً مباشراً أهمّ الثمرات الفكريّة والعلميّة. ولكنّ اليابانيّ لا يتبجّح بلغات غيره، وهو يتعلّمها لينهل منها ويصبّ ما فيها من علم في مجرى لغته الأمّ لإغنائها ثقافيّاً. ولا يتعامل مع لغته، كما يفعل البعض منّا، على أنها "بنت جارية"، ومع اللغة الإنجليزيّة مثلاً على أساس أنّها "بنت ست".
عرف اليابانيّ كيف يقيم توازناً خلاّقاً بين لغته الأمّ واللغات الأخرى. كلّ لغة أخرى هي بمثابة سيارة تقلّه إلى المكان الذي يحبّ، ولكنّه يعرف أنّه لن يتّخذ منها مأوى روحيّاً له. يسكن لغته ويرفض أنْ يقضي حياته في سيّارة. أمّا نحن فكم عدد الذين يسكنون في سيّارات الآخرين اللغويّة و"يشفّطون" بها "تشفيطاً" لغويّاً يؤذي الآذان والأذهان رغم وجود بيوت تنتظر حضورهم؟
سئل حكيم الصين كونفوشيوس من أين تبدأ الإصلاح السياسيّ؟ قال: من اللغة، ومن ضبط علاقة الأسماء بمسمّياتها. ولست أدري كم عدد الأسماء والكلمات المحروق سلاّف مسمّياتها في عالمنا العربيّ!
ولكن هل بمقدور لسان ملوّث أنْ ينتج غير أشلاء إنسان؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق