قد يجد القارىء في الحكاية التالية تبريراً طريفاً وحجة مقنعة للدفاع عن
الأميّة، وخصوصاً أنّنا في وضع اجتماعيّ يغري البعض للأسف بالفرار من هذا البلد
ولعن سيرة عنزته ومرقدها. كثيرا ما أسمع عبارات مَرَضيّة تنمّ عن تحليل متشائم
لواقع العلم أو جدواه في بلادنا منها:" لشو الواحد بيتعلّم؟"، أو"
لشو الواحد بياخد شهادات؟". اعتقد أن أسئلة جارحة من هذا الطراز تحتاج لتحليل
دقيق وتقليب النظر فيها من زوايا متعدّدة لتبيان خوائها وهرائها.وتحضرني عبارة
جبران خليل جبران:" ويل لأمّة كثرت فيها الطوائف وقلّ فيها الدين"، وأرى
أنه يمكن لتتمّتها الافتراضية أن تكون: "ويل لأمّة كثرت فيها الشهادات وقلّ
فيها العلم".
سمعت هذه الحكاية التي وقعت أحداثها في إحدى المدارس الرسميّة منذ فترة
بعيدة، وتحديداً قبل بدء الانتحار الجماعيّ عام 1975. كانت الدولة قد عزمت على نفض
واقع التعليم نفضاً لا يترك حتى بوّاب المدرسة بمأمن من هذا النفض. فهي قررت أن لا
تستعين بأي موظف لا يحسن القراءة والكتابة حتى ولو كان بوّاباً. لا شكّ في أن
الدولة كانت على حقّ في ناحية من النواحي إذ لا يعقل أن يلتقي الطالب في دخوله
وخروجه من بوّابة المدرسة بشخص لا يعرف أبسط أسس القراءة. كلّ موظّف في المدرسة
يجب أن يُظهر، منطقياً، اهتماماً بالثقافة لأنه قد يكون، بشكل واع أو غير واع،
مثالا محتملاً للطلاب وخصوصاً الصغار.
كان بوّاب إحدى المدارس أمّيّاً ولا تربطه، عملياً، باللوح والطباشير
والكتب علاقات حميمة. وقد يكون السبب في أمية البوّاب عهر الظروف، أو سذاجة الأهل،
ولقد روى لي أحد كبار السنّ أن والده لم يكنْ يسمّي المدرسة إلاّ
"متيسة"، وخوفاً على فلذات أكباده من شرّ التعليم ألغى فكرة إدخالهم إلى
المدرسة، والخبر ليس من فصيلة الحكايات الخرافيّة.
تمّ الاستغناء عن خدمات البوّاب المسكين! مع إعطائه تعويضاً بسيطاً. خرج
الرجل، بالطبع، من المدرسة محزوناً، فقطع الأرزاق من قطع الأعناق. والدولة لا
تتعامل دائما مع المواطنين على أساس أنهم أبناء من صلبها، رغم أنها، في الأخير،
المسؤول الأوّل عن تأمين العلم غير الملوّث لهم.
خرج مكسور الخاطر والروح وهو يلعن أصابعه التي لا تعرف مزايا القلم، وذهب
إلى مقهى صغير أشبه بالبسطة يجاور المدرسة لتذويب حزنه في فنجان قهوة، وكان بحكم
الجوار على علاقة مع صاحب المقهى، وراح يفضفض عن نفسه تخفيفاً لبلواه الطارئة، ومن
حديث لحديث راح صاحب المقهى، أيضاً، يظهر تأففه من العمل، وقرفه من مصبّات القهوة
التي لا تدرّ له الربح إلا بالقطارة. وأظهر ملله من مهنته ورغبته في تغييرها ثمّ
اقترح على البوّاب مقايضته المحل بمبلغ التعويض. وافق البوّاب، شعر أن وقت البطالة
أضيق من ان يفسح له مجالا للحزن المديد، واعتبر الاقتراح نعمة نزلت عليه من سقف
المقهى. وبالفعل انتقل البواب برمشة عين من المدرسة إلى المقهى. وتحضير فنجان قهوة
كأي شيء في الحياة، يحتاج إلى حبّ يلامس الشغف. وثمة مثل طريف في اليابانية يطيح
بزيف المفهوم الطبقيّ وخزعبلاته إذ يقول:"ليست القيمة إلاّ في أن تصنع أشياء
عادية صناعة خارقة"، ويبدو أن البوّاب كان خبيراً بعمل القهوة، وكان من
المؤمنين ببشاشة المثل القائل: "لاقيني وما تطعميني"، فأصبح فنجان قهوته
ونكهته مقصد أفواه الذوّاقة وأنوفهم. أخلص لحبّة البنّ إخلاصاً صوفياً. ومع الأيام
وتدفّق الخير رغب في توسعة مقهاه الذي لم يكن يسمح لضيق مساحته بشرب القهوة إلاّ
وقوفاً فاشترى المحلّ المجاور له، وراحت الأمتار المربّعة شيئاً فشيئاً تأخذ في
النموّ والاتساع، والأرباح تفيض حتى صار، في نظر أساتذة المدرسة، رجلاً تُسيل
جيوبه لعاب عارفيه.
ذهب في إحدى المرات إلى الماليّة لتسجيل عقار اشتراه حديثاً، وحين طلب منه
الموظّف التوقيع على المعاملة أوضح له أنّه لا يحسن الكتابة وأنّه متعوّد على
البصم لا التوقيع. طفرت دهشة من عيني الموظّف وأذنيه إذ لم يخطر بباله أنّ رجلاً
ثريّاً له سيمة وقيمة يجهل فكّ الحرف وتركيبه.
ابتسم صاحب العقار وقال للموظّف: صدّقني لو كنت اعرف توقيع اسمي لبقيت، إلى
اليوم، بوّاب مدرسة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق