الخميس، 16 أبريل 2015

محاولة اغتيال ظلّ



لا أحد ينكر سحر السينما الأبيض والأسود أو سحرها الملوّن، فهي قد استطاعت نقل المسموع والمقروء إلى الضوء (في الصالات المعتمة) والى المرئيّ الغريب والفاتن. فلمْ تعد الخرافات والأساطير والأحلام مجرّد صور ذهنيّة خياليّة أو كائنات من ورق وكلمات خالية من الحياة وإنّما أصبحت جُزءا من الواقع الافتراضيّ الذي لا يختلف كثيراً عن الواقع الحقيقيّ.

من بين الأفلام الخياليّة ارتقى فيلمٌ إلى مصافّ الكلاسيكيات في السينما وهو "طالب براغ"( من إخراج هنريك غالين عام 1926) الذي يحْكي علاقة الإنسان الفجائعية مع ظلّه. طبعاً، لكلّ إنسان ظلّ. والحياة باهتة ومسطّحة في حال انعدام الظلال، والذين يمارسون فنّ الرسم أو التصوير يعرفون مدى فضل الظلّ على الضوء.

كلّ إنسان يتأمّل ظلّه النابت من مرآة أو النابع من زجاج معْتم والإنسان بلا ظلّ كائن افتراضيّ، متوهَّم. وإنسان بلا مرايا يشعر كما لو أنّه يتلوّى من ألم في لظى الجحيم. ألهذا، يا ترى، لا يخلو بيت أو محفظة امرأة من مرآة؟

المشكلة تبدأ حين يتمرّد ظلّك عليك، أو حين يَعصي أوامرك، يصير امتداداً حرّاً لنفسه أو امتداداً منصاعاً لغيرك، كلّ هذه الأمور، على غرابتها أو على طرافتها، تكلّم عنها المحلّل النفسيّ الضليع "أوتو رانْك" في بحثه البديع عن "القرين" (le double). لا يوجد إنسان، في أيّ حال، غير مقرون بقرين. فأيّ امرىء لا يتكلّم، في لحظة شجن أو فرح كثيف، مع نفسه؟ أليس من الجنون اعتبار المجانين، وحدهم، هم الذين يتكلّمون مع أنفسهم؟ وإذا ما اكتفينا بالتراث العربيّ الشعريّ القديم نجد أنّ العرب ابتكروا كلمة شعريّة دخلت في قاموسهم النقديّ وهي "التجريد" بمعنى أن يجرّد الإنسان من ذاته شخصاً آخرَ يخاطبه،  ويندر أن لا يستعيذ شاعر بهذا الضرب من التعبير، تماماً كما يندر أنْ يبقى الإنسان أخرسَ أمام نفسه قاطعاً كلّ خيوط التواصل معها وإلاّ فما معنى "كلام الضمير" أو "الكلام النفسيّ" بتعبير الغزاليّ؟

المرعب أن تبيع ظلّك ( وكم من عربيّ تبرّأ من ظلّه!) أو أن تعيش مع ظلّ متمرّد عليك. هذا هو موضوع "طالب براغ"، فـ"بالدوين" "Balduin" بطل الفيلم كان غنيّاً، إلا أنّه بعثر ثروته، فترك كلّ شيء، حبيبته والأصحاب. وعاش منطوياً على نفسه، منعزلاً، محزوناً، إلى أنْ زاره في عقر وحدته، ذات يوم، عجوز اسمه سكابينيللي "Scapinelli" عارضاً عليه إنقاذه من مأزق الفقر ولكنْ بشرط أنْ يوقّع معه عَقْداً يحقّ بموجبه للعجوز أخْذ ما يريد من البيت. ضحك بالدوين، على ندرة ما يضحك، من قلّة عقل العجوز إذْ ليس في البيت بعد أن اجتاحه الفقر إلا الجدران الرطبة وبعض الأثاث التافه ومرآة هزيلة متآكلة. اعتقد بالدوين أنّ التوقيع على العقْد غنيمةٌ باردةٌ لأنّ ليس في البيت ما يخسره. ولكن بالدوين اكتشف فجأةً أنّه دفع ثمنا غالياً وغريباً لأنّ سكابينيللي دنا من المرآة واكتفى بسحب صورة بلدوين منها وانصرف برفقتها، أي أخذ منه ظلّه (في الأفلام، وهنا سرّ السحر، كلّ شيء يصير).

 من هنا تبدأ مأساة بالدوين. تخيّل نفسك واقفاً أمام المرآة ثم تنتبه إلى أنّها لا تنفعل لوجودك أو تتواصل معك أو ترحّب بطلّتك أو" تعبّرك". أين ذهبت أنت؟ قد تتحسّس وجهك، جسدك، لتشعر أنّك موجود، وأنّك لست وهماً لأنّ ظلّك برهان كيانك أمام المرآة ليس معك. استعاد البطل غناه وراحته الماديّة ولكنه عاش مسلوب الظّلّ. حبيبته الجديدة حين علمت ولمست بعينيها فقدانه لظلّه أصيبت بالرعب وولّت. عاش بلا مرايا وبلا ظلال. إلا أنّ ظلّه كان يتراءى له من بعيد وكأنّه شخص آخر، شخص متمرّد عليه، يراقبه، يطارده، ينفلش أمامه انفلاش الماضي أمام ذاكرة مثخنة بالذكريات فأصابه ما يشبه الجنون. أينما ذهب يعترضه ظلّه المتمرّد فاعتكف في بيته، ثمّ جهّز مسدّسه بالموت وراح يكتب وصيّته إلا أنّ ظلّه اقتحم عليه عزلته الأخيرة فانتهز بالدوين الفرصة وأطلق الرصاص على ظلّه أو صورته. ظنّ أنّه قضى عليه فأزاح الستارة عن المرآة التي كان قد غطّاها وحين وجد أنّ المرآة استعادت ظلّه شعر بفرح عارم ولكنّه شعر، في الوقت نفسه، بألم قانٍ في صدره فانتبه إلى أنّ الرصاصة اخترقت صدره وليس صدر ظلّه الذي لا يخترقه الرصاص، وما هي إلا لحظات حتى خرّ بالدوين صريعاً، مضرّجاً بدم ظلّه المستباح.

نرى، في آخر الفيلم، سكابينيللي العجوز وهو يمزّق "وثيقة العقْد" على جثّة بالدوين. وينتهي الفيلم بكتابة ثلاثة أبيات على الشاشة للشاعر الفرنسيّ ألفريد ده موسيه يقول فيها:

حيث تكون سأكون/وفي أيًامك الأخيرة/سوف تجدني جالساً على بلاط ضريحك.

يعلّق أوتو رانْك قائلاً: إنّ مغزى الفيلم بسيط وهو أنّ الظلّ بمثابة التاريخ الشخصيّ لكلّ إنسان، وأنّ بيعه أو نسيانه أو الهروبَ منه أو محاولةَ اغتيالِه أو مقايضتَه بتاريخ آخرَ ليس أكثرَ من وهمٍ مخاتلٍ وقاتلٍ.


بلال عبد الهادي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق