جنائز وكنوز
هل من فارق بين " الكنز" و " والجنازة" ؟ ما كان خطر ببالي
أن أطرح هذا السؤال لو لم أقرأ ان فعل" كنز" وفعل" "جنز"
هما في الأساس فعل واحد توارت أحاديته خلف ثنائية ظاهرة للعيان. والعيان يخدع
العيون.
والإبدال الصوتيّ بين الحروف ليس حالة مستحيلة ولا نادرة، بل هي من صلب القوانين
الصوتية. ومن يطالع كتب " الإبدال الصوتي" يكتشف خيرات كثيرة وكنوزاً دلاليّة طريفة السيرة. فلكلّ كلمة سيرة
ذاتية، وخبرة، وتجربة.
ومن ينصت بتمعن إلى ما يخرج من بين شفتيه وشفاه من يعرف ينتبه إلى أنّ ابدال
صوت بصوت مسألة عادية في اللهجات، والإبدال الصوتيّ قد يكون بين حرف وحرف، أو حركة
وحركة. حدّق مثلاً الى الفتحة والضمة والكسرة في عين فعل المضارع " ينزل"،
وتأمّل كيف تسمعها من اصدقائك أو معارفك.
فشخص يقول: " بدّي انزَل ع البلد" بفتح حرف الزاي، او " انزُل
ع البلد" بضمّ حرف الزاي، أو " انزِل ع البلد" بكسر حرف الزاي. فحركة
عين فعل المضارع لا تضارعها حركة في النطنطة! وما تراه على مستوى الحركات تراه على
مستوى الحروف. الكاف لها طرائق في النطق مختلفة من بلد الى بلد، والجيم له حالات نطق
تقرب من الكاف، والأمر ليس بغريب.
والكنز جاء من الجنز. كيف؟ كلّكم تسمعون بلصوص القبور. ماذا يسرق انسان من قبر؟
هل يسرق هيكلا عظميا؟بالتأكيد لن يحسن استخدام الهياكل العظمية او بقايا ، وان كان
للهياكل العظمية فوائد لا تنكر في قراءة التاريخ. فالعظام أرشيف اجتماعي وسياسي ودينيّ.
وكنت قد قرأت ان العلماء الاجتماع يدرسون العظام القديمة لاستخراج انواع المآطل التي
تؤكل.
كان بعض الناس يلبّسون أسنانهم بالذهب، فكان السارق ينكش القبر أو ينبشه القبر ليسرق تلبيسة الذهب، أي أنّ الجنز يحمل الذهب.
والصلة بين الكنز والجنز هي ان كلاهما مطمور تحت الأرض، ومتوار عن الأنظار.
فالكنز يحبّ السترة! والاختفاء صلة الوصل الدلالية بين الكلمتين.
الحفر للحصول على الكنز كحفر القبر للحصول على تلابيس الأسنان الذهبيّة. وانا
هنا اختصرت المسألة بتلابيس الذهب، ولكن نعرف ان الميت، في المعتقدات القديمة، كان
يأخذ معه أشياء كثيرة، وليس فقط اسنانه الذهبية. ولا تزال الى اليوم ، في اي حال، القبور
كنوز!
وهل الأهرامات غير مدافن مليئة بالكنوز والأسرار والأفكار؟ بل لا تزال الى اليوم
كما قلت تعتبر الهياكل العظمية أرشيفا قابلاً للدرس بغرض معرفة كيف كان يأكل الانسان
وماذا كان يأكل؟ كما أني قرأت في كتاب عن تاريخ المجاعات ان العلماء يدرسون عظام الموتى لاستخراج أسباب المجاعات
؟
لا أحد يستهين بالعظم! فالهيكل العظميّ، من الناحية المعجميّة، منجاب ولود.
في لغتنا العربية نقول الملك " المفدّى" ولكن " المعظّم"! وهل كان لهذه الكلمة وجود لولا العظام؟ وكيف لأمرئ
أن " يستعظم" أمراً من الأمور لولا العظام؟ ومن هو الإنسان " العظيم"
لو لم تتبرّع له " العظْمة" بشيء من " العظَمة"؟
مارسيل بروست
حين قام مارسيل بروست بترجمة بعض اعمال رسكين الأدبية كان يذهب لرؤية الأماكن الموصوفة في الكتاب ليحسن
ترجمتها .لقد تقمّص عينَي رسكين وهو يرى .لم يكتفِ بالجلوس على المنصدة والنظر في المكتوب
.هكذا فعل أيضاً حين كتب رائعته الأدبية " البحث عن الزمن المفقود". كتابه
سردٌ للذاكرة ولكنه لم يكن يكتفي بمخزون الذاكرة، فحين كان يريد ان يصف أحاسيس طفولته
إزاء زهرة في البستان كان يذهب إلى البستان
مجدّدا ليتذّكر تلك الأحاسيس القديمة ويعيشها بكلّ ما فيها من فوح طازج!
كانت الزهرة ، في عيني مارسيل بروست،
محبرة يغرف منها أحاسيس الطفولة ليسكبها رحيقاً لغويّاً مصفّى في كراريس الكهولة.
مدونّة
كل انسان يدافع عن لغته بحسب استطاعته أو حسب رغبته أمام مدّ اللغة الانكليزية،
وفرنسا تشعر أنها مستهدفة من قبل اللغة الانكليزية، وتحاول جهدها أن تنتصر ولو بالنقاط.
ومن جملة ما قرأت اقتراح باستعمال فعل carneter كبديل عن فعل bloguer
وهو ما يعني التدوين على المدونة او كتابة تدوينة في البلوغ blog ( كما تكتب "تغريدة"
على "تويتر" مثلاً) وهي كلمة إنكليزية منحوتة من web log ، وطريقة نحتها طريفة
فهي أخذت الحرف الأخير من كلمة web ووضعته كبادئة
لكلمة log
فولدت كلمة انكليزية جديدة هي blog. وهنا نلحظ كيف تتغير مصائر الحروف في الكلمات، فحرف
"B "
بين ليلة وضحاها تحوّل من حرف كان في المرتبة الأخيرة إلى حرف له حقّ الصدارة في
كلمة لم يكن لها من قبل وجود!
ولكن لا أحد يلعب دور الاستعمال، الاستعمال
هو قضاء اللغة وقدرها. ولا يمكن لأحد أن يتنبّأ بمصير الكلمات. القدر اللغويّ لا يستشير
أحدا، والاستعمال لا يستشير أحداً. والانتصار للاستعمال مهما حاول المتشدّقون والمتنطّعون
والمُتفيهقون ان يقفوا في وجه السيل اللغويّ العرم. كلامي لا يعني ان نترك اللغة فوضى
بلا رقيب أو حسيب. كلامي يعني ان نتفهم وجهة نظر اللغة، وللغة وجهة نظر شخصية حكيمة
تفوق أحيانا حكمة لقمان الحكيم او سليمان الحكيم.
أشير الى ان الاقتراح باستخدام فعل
" carneter" بدلا من فعل" bloguer
" جاء من مقاطعة كيبيك الفرنسية في كندا وليس من موطن اللغة الفرنسية الأم.
وهذا بحد ذاته دالّ! فالفرنسية الكندية تعاني الأمرّين من الانكليزية التي تحاصرها
من كلّ جانب.
قلة أدب التراث
الدين ليس معياراً في تقييم الأدب، هذا ما فهمه القاضي الجرجاني صاحب كتاب
" الوساطة بين المتنبي وخصومه" وطبّقه في ممارسته للنقد الأدبيّ والتذوّق
الأدبيّ . لنتخيّل اننا نريد حذف كلّ ما لا يلائم الدين من تراثنا الأدبي، وتطهيره
من قلّة الأخلاق والبذاءة، ولو فعلنا ذلك لارتكبنا مجزرة بحقّ تراثنا الأدبيّ. كان
امرؤ القيس وطرفة والفرزدق والأخطل وجرير في سطل الزبالة فلا يخلو شعرهم من الموبقات
والإسفاف في التعابير الصادمة، وكذلك علينا أن نرمي بشعر عمر بن أبي ربيعة الفاسق،
وبشعر ابن الروميّ الهجّاء المقذع، وبشعر دعبل الخزاعي طزدويل اللسان، وكلّ من تلوّث فمه بالهجاء، ولكان مكان أبي نواس
في خمّارة أو ملهى ليليّ، وليس في كتب الأدب.
اذا طبّقنا المعياري الديني في تقييم الأدب
أو تقويمه لضاع أكثر الأدب ولتبخّر كلّ الهجاء، وما أدراك ما الهجاء؟ ولكان علينا أن نحذف صفحات كثيرة من كتب الجاحظ
وكتب ابي حيّان التوحيدي وكان علينا أن نغربل كتاب " يتيمة الدهر" للثعالبي
من مباذله الكثيرة . قلّة الأدب جزء من الأدب،
هذا ما فهمه رجالات تراثنا الأجلاء، وهذا ما يقوله شعر أبي نوّاس وغير أبي نوّاس، وهذا
ما تقوله ، أيضا، طرائف الجاحظ الإباحيّة جدّا في كتبه ورسائله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق