الثلاثاء، 28 أبريل 2015

الشيطان يعظ



عنوان المقالة استعارة من اسم رواية لنجيب محفوظ، ولكن لا صلة لها بروايته، وإنّما خطر ببالي عنوان هذه الرواية وأنا أقرأ مقطعاً من كتاب " فضل الكلاب على كثير ممّن لبس الثياب" لابن المرزبان المُتوفّى في مطلع القرن الرابع  للهجرة . يبدو لنا أنّ ابن المرزبان قد عاش تجربة مرّة مع بعض الناس، وهذا ما يظهر في مقدّمة كتابه التي يتناول فيها خيانة الإخوان حين ينقلب ظهر المجنّ مستشهداً بأحاديث نبوية وآيات قرآنية وأبيات حكمية وحكايات تتناول الجبلّة البشريّة المطويّة على الغيرة والغيبة والحسد. الطريف أنّ لابن المرزبان كتاباً آخر يحمل عنواناً دالاًّ هو "ذمّ الثقلاء". فذمّ الإنسان، في كلّ من الكتابَيْن، ظاهر. إنّ الإنسان بيّن في عنوان كتابه "فضل الكلاب على كثير ممّن لبس الثياب" وإنْ بشكل موارب في عبارة "من لبس الثياب". وتحضرني، هنا، عبارة تلائم المقام، وهي علاقة الإنسان باللباس، والعبارة للكاتب المصريّ عبّاس محمود العقّاد يعرّف بها الإنسان ليس بالنطق أو البيان، وإنّما باللباس فيقول:" الإنسان حيوان لابس". ولا أعرف لماذا يعترض بعض الناس على كلمة "حيوان" في تعريف الإنسان، واعتبار ذلك منقصة بحقّه رغم ورود التعريف في كتب عربيّة تراثيّة من بينها كتب في أصول الفقه ككتاب الإمام الآمديّ "الإحكام في أصول الأحكام"؟ ولكن هذه مسألة أخرى.

الحكاية التي يرويها ابن المرزبان لا تدخل العقل، وليس من وظائف الحكايات أن تكون صورة عن الواقع وإلاّ لانتفى مبرّر وجود حكايات كثيرة من العالم، منها "رسالة الغفران" لأبي العلاء المعرّي مثلاً، ولعاش العالم في وحشة باردة، فالحكايات لا تختلف عن اللغة من حيث كونها مجازات بحسب ما يقول العالم اللغويّ ابن جنّي، والحكاية الخرافيّة تضيف نكهة زكيّة على المعنى المخبوء. الحكايات التي تُروى عن إبليس كثيرة، ومنها قصّة بديعة كتبها الأديب المصريّ توفيق الحكيم بعنوان "أرني الله" تروي حكاية إبليس الذي تعب من ممارسة الشرّ وإغواء الناس فذهب إلى الحاخام الأكبر للتوبة على يديه فرفض الحاخام قبول توبته النصوح، فما كان من إبليس إلاّ الذهاب إلى البابا عساه يرأف بحاله فلم يعره البابا أيّ انتباه فقصد إبليس شيخ الأزهر عساه يتوب على يديه، ولكنّ شيخ الأزهر، بدوره، صدّه لأنّ توبته ضدّ منطق الحياة وسوف يتغيّر على إثرها نظام الكون كلّه وتختلّ علاقة الناس مع الألفاظ ودلالاتها. وثمّة كتاب آخر صنّفه الإمام ابن الجوزيّ بعنوان" تلبيس إبليس" وهو، بدوره، لا يخلو من حكايات طريفة عن معاناة إبليس في الحياة وظلم الناس له، والاختباء وراء اسمه لارتكاب ما يحلو لهم من موبقات محمّلينه المسؤوليّة عن وزر أعمالهم وهو بريءٌ منها "براءة الذئب من دم ابن يعقوب"!

يروي المرزبان حكاية رجل اسمه عبد الله بن هلال الكوفيّ المجذوم، ولا أعرف إنْ كان الرجل من لحم ودم أم أنه رجل من مخترعات خيال ابن المرزبان، إلاّ أنّ الطريف، هنا، نسبته إلى مدينة الكوفة، وثمّة قول عن أهل الكوفة يقول:" الكوفي ما بيوفي" أي أنّ الوفاء ليس من شيم أهل الكوفة، ولا ريب أنّ كلّ تعميم افتراء، ولكنّ الأمثال شأنها شأن الناس ليس من طبيعتها أن تكون عادلة في كلّ حين. ويبدو من الحكاية أنّ عبد الله على علاقة شخصيّة طيّبة وحميمة مع إبليس لهذا قدم إليه جار له طالباً منه أن يكتب له رسالة توصية تسهّل له لقاء إبليس، فالوصول إليه يحتاج إلى وسيط أو وساطة. شعر ابن المرزبان أنّ القارىء قد يستسخفّ هذه الحكاية فقال مستدركاً:" إن كان العقل يدفع ذلك الخبر فهو مثل حسن يُعرف مثله في الناس"، وهكذا يتحوّل الخبر الغريب إلى "مثل حسن" له أشباه في دنيا الناس. فكتب الرجل لجاره الكتاب، وأكّده غاية التأكيد، ومضى وأوصل الكتاب إلى إبليس، ولا نعرف كيف وصل الرجل حامل الرسالة إلى الحضرة الإبليسيّة، وحين علم إبليس أنّ الرجل يحمل رسالة من طرف عبد الله كرّمه غاية التكريم، وعلاقة إبليس بعبد الله بن هلال الكوفيّ تفصح عنها طريقة إبليس في قراءة الرسالة، يقول ابن المرزبان:" فقرأ إبليس الكتاب، وقبّله، ووضعه على عينه، وقال: السمع والطاعة لأبي محمّد – إدراج الكنية بدلاً من الاسم تنمّ عن ودّ متين بين الطرفين: إبليس وعبد الله- فما حاجتك؟ وراح الرجل يروي مأساته التي لأجلها تكبّد عناء السفر إلى مكان إقامة إبليس قائلاً: لي جارٌ مكرّم، شديد الميل إليّ، شفوق عليّ وعلى أولادي. إن كانت لي حاجة قضاها أو احتجت إلى قرض أقرضني وأسعفني. وإن غبت خلفني في أهلي وولدي، يبرّهم بكلّ ما يجد إليه السبيل. وإبليس كلّما سمع منه، يقول: هذا حسن. فلمّا فرغ من وصفه قال: فما تحبّ أنْ أفعل به؟ قال: أريد أن تزيل نعمته وتفقره، فقد غاظني أمره وكثرة ماله وبقاؤه وطول سلامته. فصرخ إبليس صرخة لم يسمع مثلها منه قط، فهو قد سمع حكاية لم تخطر بخياله الوثّاب، فلقد صدمته رغبة الرجل المفعمة باللؤم والتجنّي في زوال نعمة جاره الذي لا تشوب أخلاقه شائبة. فاجتمع إليه عفاريته وجنده وقالوا: ما الخبر يا سيّدنا ومولانا؟ فقال لهم وقد أكلته الحيرة: هل تعلمون أنّ الله، عزّ وجلّ، خلق خلقاً هو شرّ منّي؟"

تنتهي الحكاية هنا، لا يزيد ابن المرزبان أيّ تفصيل على الحكاية، يتركها معلّقة في خيال القارىء دون نهاية مغلقة. هل لبّى إبليس طلبات الرجل؟ هل اعتبر إبليس رغبة هذا الرجل فرصة ذهبيّة لا يمكن أن تفوّت؟ إنّ استفهام إبليس الأخير في محضر عفاريته وجنده يشير إلى أنّه "رفع العشرة" كما يقال أمام هذا الإنسيّ الجهنّميّ معترفاً بأنّه- أي إبليس- ليس شرّ الخلق. فالاستفهام، كما يشير السياق، استفهام إنكاريّ. لقد اكتشف إبليس أنّه ليس، كما يزعم الناس، شرّ الخلق.

ينهي الكاتب حكايته، وهنا أشير إلى أنّ الحكاية وردت في مدخل كتاب ابن المرزبان عن فضل الكلاب، وهي حكاية كافية بنظره لأن يدير ظهره للخلق، إذ قال بعد سرْد الحكاية: " ولو فتّشت في دهرنا هذا لوجدت مثل صاحب الكتاب كثيراً ممّن تعاشره إذ لقيك رحّب بك، وإذا رغبت عنه أسرف في الغيبة، وتلقّاك بوجه المحبّة، ويضمر لك الغشّ والمسبّة. وقد علمت ما جاء في الغيبة، قال صلّى الله عليه وسلّم: من كان له وجهان في الدنيا كان له، يوم القيامة، لسانان من نار".

الجدير بالملاحظة أنّ للحكاية، أيضاً، وجهين: وجهاً ينتمي إلى عالم الشهادة، ووجهاً آخرَ ينتمي إلى عالم الغيب عالم إبليس وعفاريته!

بلال عبد الهادي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق