عين الشرق ترى غير ما تبصره تلك الغربية، والجغرافيا تتحمل المسؤولية، هذا ما يؤكده لنا ريتشارد إي. نيسبت، عالم نفس النموّ في كتابه المستنير "جغرافيا الفكر, كيف يفكر الغربيّون والآسيويون على نحو مختلف... ولماذا؟". وإدراك حقيقة أن الجغرافيا تتحكم في تحديد زاوية الرؤيا، يسهم بشكل جذري في تكوين "النظرة الثالثة" التي توفّر على العالم الكثير ممّا يكلّفه"صراع الحضارات" أو "تجاذب الثقافات" الذي يعكس جهلاً مدقعاً بالآخر.
"جغرافية الفكر" الذي قام بنقله إلى العربية شوقي جلال ونشرته سلسلة "عالم المعرفة" في الكويت هو من الكتب التي تنظر إلى ابعد من أنفها, وتغوص في الزمن البعيد, انطلاقا من كونفوشيوس وأرسطو لترى جذور الأزمة وخيوط اللعنة التي تلتفّ حول عنق الشعوب, والكتاب يشتغل على ناحية، إلى حدّ ما، جديدة بدأ العمل العلميّ عليها منذ منتصف القرن العشرين, وهي من المواضيع التي لم يلتفت إليها بعد عرب هذه الأيام, فنحن أبناء الشرق الأوسط أو الأدنى لا نملك للأسف، حتى الحّد الأدنى، من المعرفة بالتراث الآسيوي الغنيّ, وهذا سؤال ملحاح لا بد من الإجابة عنه كما يقول المترجم في مقدمته الوافية, فهو يطرح جملة من الاستفهامات حول هذا الانقطاع رغم التقاطع مع ثقافات الشرق الأقصى. ويعتبر المترجم ان تعريب هذا الكتاب قد يلفت النظر إلى تأمل واقعنا وتراثنا الثقافي في ضوء دراسة عقلانية نقدية تجريبية, وهو سوف يفسح المجال أمام العرب لطرح أسئلة منها: كيف يفكر العرب؟ وكيف يرى العرب العالم؟ وما الجذور الثقافية للمعرفة وللتفكير العربيّ ؟ ما المنظومة الذهنية الحاكمة للفرد العربي؟ لماذا نستسيغ فكرا دون آخر فيبقى الأوّل ويترسخ بينما يذوي الآخر ويتفسخ ؟ لماذا مثلا شاع فكر الأشعري أو الغزالي دون فكر ابن رشد أو ابن خلدون بحيث تطوّر فكرهما على غير أرضهما ؟ لماذا اطّرد نموّ فكر الشيعة جغرافيا في أماكن دون غيرها؟ ولماذا اطرد فكر السنّة في أماكن بذاتها؟ أسئلة لا مفر من طرحها وفق أسس ومناهج علمية عقلانية.
خسارة معرفية كبرى عدم انغماسنا في تبيان قسمات الحضارة الشرق آسيوية, فالعالم ليس غربا لا غير! هل افتتاننا بالغرب منعنا من رؤية الشرق؟ بل ما لنا لا ننقل المقولة العربية الشهيرة" اطلبوا العلم ولو في الصين" من حيّز المجاز إلى حيّز الحقيقة .
"جغرافيا الفكر" يطرح جملة تساؤلات مجدية عن الأسباب التي أدت إلى التمايز بين النظرتين, الغربية المعتمدة على المنطق الصوري والآسيوية التي ترى أن الشخص الذي يبالغ في الاهتمام بالمنطق لم ينضج بعد.
اعتمد الكاتب في دراسته على بحوث علمية حديثة من بينها الإثنولوجيا والدراسات المسحية الاستقصائية والبحوث المعملية فضلا عن معايشة حميمة للشرق الأقصى, معايشة لا تنهض على فكر استشراقي يمارس الغطرسة الغربية كما يقول وهي، الغطرسة التي أعمت الكثيرين عن رؤية جماليات التفكير الآسيوي ورحابة صدره.
إنّ الذات الغربية تختلف عن الذات الشرق آسيوية بجملة أمور منها ان النظرة الفردية نظرة غير متوفرة في الشرق. ويلفت المؤلف النظر إلى أن تعبير" النزعة الفردية" غير موجود في اللغة الصينية. فالصينيون كما يقول المؤلف" ليسوا مثل قطع الكعكة بل مثل حبال الشبكة", لأنّ ال"أنا" المنعزلة المستقلة ليست موجودة في الفكر الكونفوشيّ.
كما ان الآسيويين لهم نظرة مرتبطة بطريقة تصورهم للحياة فهم يؤمنون بالسياق, بمعنى ان الإنسان لا يمتلك شخصية واحدة وإنما هو حرفيا شخص آخر في كل لحظة من لحظات حياته, وهذا ما يفسر موقفهم من العدالة الغربية التي يعتبرونها عمياء بل وهذا ما يفسر أيضا النسبة الضئيلة من المحامين في اليابان عنه في الولايات المتحدة, فمقابل كل أربعين محاميا في أميركا محام واحد في اليابان, وذلك يعود إلى ان اليابانيين لا يسعون إلى حسم النزاعات وإنما إلى تسويتها, أو خفض مستوى العداوة فمفهوم الفائز والخاسر مفهوم مختلف بل تذهب الصين إلى اعتبار العدالة فنا وليس علما.
تتبدى النظرات المختلفة بين الآسيويين والغربيين بطرق شتى منها الدراسة التي قامت بها المؤرخة" ماساكو فاتانابي" من خلال دراستها للوسائل التي يتعامل بها اليابانيّون والأمريكيون مع الأحداث التاريخية من جانب التلاميذ في المدارس الابتدائية والجامعات ومن جانب المعلمين. فاليابانيون يقضون وقتا أطول من الأمريكيين في وصف سياق الأحداث ويحافظون على الترتيب الزمني لها خلال العرض, بينما الأمريكيون يبدأون بالنتائج كأن يقال" إنّ الإمبراطورية العثمانية انهارت لأسباب ثلاثة أساسية". ويلحظ الكاتب ان استخدام " كيف" يغلب عند اليابانيين بينما "لماذا" هي الاغلب عند الأمريكيين. وتنقل المؤرخة ماساكو فاتانابي عن أميركي يعلّم الإنكليزية كلغة ثانية قوله:" كم هو عسير على المعلمين الأمريكيين ان يفهموا بحوث الطلاب اليابانيين لأننا لا نرى فيها أي إشارة سببية".
وكذلك ينفرد العالم الآسيوي بنظرة يستغربها الغربي. يستشهد الكاتب بتجربة قام بها عالم نفس النمو "ليانج هوانج شيو" وهي عبارة عن صورة تحتوي ثلاثة رسومات الرسم الأوّل عبارة عن بقرة والثاني دجاجة والأخير كمية من العشب وعرض الصورة على مجموعة من الأطفال الأمريكيين والصينيين, وطلب من كل مجموعة تحديد أي من العنصرين ينتميان إلى بعضهما البعض, وجد ان الأطفال الأمريكيين ربطوا بين البقرة والدجاجة بناء للانتماء التصنيفي للحيوانات بينما الأطفال الصينيون ربطوا بين البقرة والعشب أي كانت انطلاقتهم في تصنيف الأشياء مغايرة لنظرة الأمريكيين فهي تنطلق من مفهوم العلاقات أي ان البقرة على صلة مع العشب أكثر مما هي على صلة مع الدجاجة.لان البقرة تأكل العشب.التجربة نفسها قام بها المؤلف باستخدام الكلمات لا الصور وكانت النتيجة نفسها مما يعني ان تصنيف العالم ليس واحدا عند الشعوب. هذه القصة البسيطة شديدة الدلالة على ان الإنسان يبني صورة عن العالم من خلال إطار ثقافي معين يعيشه وليس من خلال حقائق ثابتة غير قابلة للنقض. والكاتب يشير باستمرار إلى هذه التباينات لأنّ إغفالها من مسببات التوتّر بين الشعوب.
وثمة أمر آخر لا تخلو قراءته والتعمّق فيه من متعة وتفتّح أنظار جديدة على اللغة, وهو الفصل المعنون بـ"هل العالم مؤلف من أسماء أم من أفعال؟ " قد يبدو السؤال ساذجا إلا انه في الحقيقة من الأسئلة التي تكشف عن بصيرة رائعة يتمتع بها الكاتب بحكم امتلاكه للرؤيتين المختلفتين عن العالم, الرؤية الغربية بنت التراث الإغريقي والمنطق الصوري, والرؤية الشرق آسيوية ذات الجذور الكونفوشيّة.وهو يتبنى فيما يبدو الاتجاه اللغوي القائل بان الإنسان لا يمكن له ان يتصور العالم إلا كما تصوره له لغته واختلاف البناء اللغوي ليس اختلافا شكليا فقط دون أي ارتباط بالبناء الذهني للناطقين بهذه اللغة أو تلك, بمعنى ان الكاتب يؤمن بالفرضية اللغوية التي قال بها العالمان في الأنثروبولوجيا اللسانية ادوارد سابير وبنيامين وورف، اللذان ذهبا إلى ان عمليات التفكير المعتادة لدى الناس تعكس فوارق البنى اللغوية. ويعتبر الكاتب ان هذه الفرضية التي لاقت قبولا ورفضا وجدلا بين علماء اللسانيات وعلماء النفس على مدى عقود تعيش الآن أزهى فتراتها التي تحظى بقبول عام. وهو في هذا الفصل يربط بشكل محكم بين اللغة والفكر, ويقول بما ان التفكير الآسيوي يقوم على مفهوم العلاقات كان لا بد للغته من ان تهتمّ بالأفعال في الدرجة الأولى وليس بالأسماء. كما ان قيام التفكير الغربي على الموضوعات والتصنيفات بحسب الفئات، أدّى بدوره إلى ان يقع الغرب أسير الأسماء. وهذا ما يتبدى في طور اكتساب اللغة, لاحظ المؤلف من خلال الاختبارات ان الأم الاميركية استخدمت الأسماء مع أطفالها ضعف استخدام الأم اليابانية بينما الأم اليابانية استخدمت الأفعال مع أطفالها ضعف استخدام الأم الأمريكية. يقول الكاتب مستشهدا بقول لعالم النفس المعرفي ديدر جنتنر:"ان الأطفال يتعلمون الأسماء أسرع كثيرا من تعلمهم للأفعال, والأطفال الذين يَحبون يمكنهم تعلم الأسماء بمعدل اسمين في اليوم الواحد وهذا معدل أسرع كثيرا من معدل تعلم الأفعال". ان هذا القول الذي كان يعتبر قاعدة عامّة تنطبق على كل اطفال العالم اثبت نسبيّته, تقول عالمة نفس النموّ تويا تارديف:" ان أطفال شرق آسيا يتعلمون الأفعال بالمعدل نفسه لتعلم الأسماء, وبسرعة اكبر كثيرا من سرعة تعلمهم الأسماء".
ويشير المؤلف إلى ناحية من نواحي تركيب الجملة في اللغات الآسيوية وهي" ان الأفعال أكثر وضوحا وبروزا في لغات شرق آسيا منها في اللغة الإنجليزية ولغات أوروبية كثيرة إذ تنزع الأفعال في اللغات الآسيوية إلى ان تأتي إما في أول الجملة أو في آخرها, وكلاهما موقعان واضحان نسبيا، ونلحظ في اللغة الإنجليزية ان الفعل عادة يكون مختفيا وسط الجملة". ويعتبر المؤلف سبب ذلك "أن الذات هي صانعة الفعل عند الغربيين بينما الفعل لدى أبناء شرق آسيا يجري النهوض به في تضافر وتنسيق مع الآخرين".
ان غاية الكتاب الأساسية هي التبصر بما آل إليه العالم اليوم من صدام ثقافي يندد به. فالكاتب يؤمن ان الصدام الثقافي ابن الغباء البشري لا غير, هو ابن انغلاق القوى المتحكمة اليوم بمصائر أهل الأرض كما انه نتيجة نظرة عبر بؤرة ضيقة لا منفرجة الزاوية, ويتوقف عند مصطلحين كثر الحديث عنهما في الآونة الأخيرة, الأوّل هو مصطلح " نهاية التاريخ " الذي أتى به فوكوياما بمعنى الفوز النهائي للرأسمالية والديمقراطية, والثاني مصطلح" صدام حضارات"الذي أتى به صمويل هنتنغتون ونظرته سوداوية "لأنه يحصر هذه القوى داخل تضاد فيما بينها لا فكاك منه بسبب الاختلافات التي لا يمكن التوفيق بينها من حيث القيم والنظرة إلى العالم", ويرى الكاتب ان الغرب من خلال مقولاته هذه إنّما" يضع نفسه في مأزق زائف ولا أخلاقي وخطر".
ويختم الكاتب بنظرة تفاؤلية مصدرها رحابة نظرته وتعمّقه في الثقافات فيسمي نظرته بـ" الرؤية الثالثة" ومفادها ان العالم يمكن ان يكون على طريق التلاقي وليس اطراد التباعد, غير انه تلاق ليس مبنيا على التغريب الخالص ولا التشريق الخالص, من خلال صور معرفية جديدة هي مزيج من المنظومات والقيم الاجتماعية, فيشير إشارة دالة إلى أنّ كثيرا من الأطباء الغربيين مثلا يقبلون بعض الأفكار العامة عن الطب الكلّي أي الذي يعتمد على النظرة الكلية للإنسان والبيئة, كما انه يعبر بصورة مجازية مستلة من أطباق الطعام عن التمازج فيقول صحيح ان العالم يشرب الكوكاكولا ويرتدي الجينز إلا أننا نجد الغربيين يضيفون إلى أطعمتهم أطعمة شرقية. ويعتبر ان المستقبل سيكون مثل طبق تتآلف مكوناته من مصادر ثقافية مختلفة, ويختم كتابه بالقول" ولعلنا لا نبالغ في الأمل بأن هذا الطعام سيحتوي على أفضل ما في الثقافتين".
"جغرافية الفكر" الذي قام بنقله إلى العربية شوقي جلال ونشرته سلسلة "عالم المعرفة" في الكويت هو من الكتب التي تنظر إلى ابعد من أنفها, وتغوص في الزمن البعيد, انطلاقا من كونفوشيوس وأرسطو لترى جذور الأزمة وخيوط اللعنة التي تلتفّ حول عنق الشعوب, والكتاب يشتغل على ناحية، إلى حدّ ما، جديدة بدأ العمل العلميّ عليها منذ منتصف القرن العشرين, وهي من المواضيع التي لم يلتفت إليها بعد عرب هذه الأيام, فنحن أبناء الشرق الأوسط أو الأدنى لا نملك للأسف، حتى الحّد الأدنى، من المعرفة بالتراث الآسيوي الغنيّ, وهذا سؤال ملحاح لا بد من الإجابة عنه كما يقول المترجم في مقدمته الوافية, فهو يطرح جملة من الاستفهامات حول هذا الانقطاع رغم التقاطع مع ثقافات الشرق الأقصى. ويعتبر المترجم ان تعريب هذا الكتاب قد يلفت النظر إلى تأمل واقعنا وتراثنا الثقافي في ضوء دراسة عقلانية نقدية تجريبية, وهو سوف يفسح المجال أمام العرب لطرح أسئلة منها: كيف يفكر العرب؟ وكيف يرى العرب العالم؟ وما الجذور الثقافية للمعرفة وللتفكير العربيّ ؟ ما المنظومة الذهنية الحاكمة للفرد العربي؟ لماذا نستسيغ فكرا دون آخر فيبقى الأوّل ويترسخ بينما يذوي الآخر ويتفسخ ؟ لماذا مثلا شاع فكر الأشعري أو الغزالي دون فكر ابن رشد أو ابن خلدون بحيث تطوّر فكرهما على غير أرضهما ؟ لماذا اطّرد نموّ فكر الشيعة جغرافيا في أماكن دون غيرها؟ ولماذا اطرد فكر السنّة في أماكن بذاتها؟ أسئلة لا مفر من طرحها وفق أسس ومناهج علمية عقلانية.
خسارة معرفية كبرى عدم انغماسنا في تبيان قسمات الحضارة الشرق آسيوية, فالعالم ليس غربا لا غير! هل افتتاننا بالغرب منعنا من رؤية الشرق؟ بل ما لنا لا ننقل المقولة العربية الشهيرة" اطلبوا العلم ولو في الصين" من حيّز المجاز إلى حيّز الحقيقة .
"جغرافيا الفكر" يطرح جملة تساؤلات مجدية عن الأسباب التي أدت إلى التمايز بين النظرتين, الغربية المعتمدة على المنطق الصوري والآسيوية التي ترى أن الشخص الذي يبالغ في الاهتمام بالمنطق لم ينضج بعد.
اعتمد الكاتب في دراسته على بحوث علمية حديثة من بينها الإثنولوجيا والدراسات المسحية الاستقصائية والبحوث المعملية فضلا عن معايشة حميمة للشرق الأقصى, معايشة لا تنهض على فكر استشراقي يمارس الغطرسة الغربية كما يقول وهي، الغطرسة التي أعمت الكثيرين عن رؤية جماليات التفكير الآسيوي ورحابة صدره.
إنّ الذات الغربية تختلف عن الذات الشرق آسيوية بجملة أمور منها ان النظرة الفردية نظرة غير متوفرة في الشرق. ويلفت المؤلف النظر إلى أن تعبير" النزعة الفردية" غير موجود في اللغة الصينية. فالصينيون كما يقول المؤلف" ليسوا مثل قطع الكعكة بل مثل حبال الشبكة", لأنّ ال"أنا" المنعزلة المستقلة ليست موجودة في الفكر الكونفوشيّ.
كما ان الآسيويين لهم نظرة مرتبطة بطريقة تصورهم للحياة فهم يؤمنون بالسياق, بمعنى ان الإنسان لا يمتلك شخصية واحدة وإنما هو حرفيا شخص آخر في كل لحظة من لحظات حياته, وهذا ما يفسر موقفهم من العدالة الغربية التي يعتبرونها عمياء بل وهذا ما يفسر أيضا النسبة الضئيلة من المحامين في اليابان عنه في الولايات المتحدة, فمقابل كل أربعين محاميا في أميركا محام واحد في اليابان, وذلك يعود إلى ان اليابانيين لا يسعون إلى حسم النزاعات وإنما إلى تسويتها, أو خفض مستوى العداوة فمفهوم الفائز والخاسر مفهوم مختلف بل تذهب الصين إلى اعتبار العدالة فنا وليس علما.
تتبدى النظرات المختلفة بين الآسيويين والغربيين بطرق شتى منها الدراسة التي قامت بها المؤرخة" ماساكو فاتانابي" من خلال دراستها للوسائل التي يتعامل بها اليابانيّون والأمريكيون مع الأحداث التاريخية من جانب التلاميذ في المدارس الابتدائية والجامعات ومن جانب المعلمين. فاليابانيون يقضون وقتا أطول من الأمريكيين في وصف سياق الأحداث ويحافظون على الترتيب الزمني لها خلال العرض, بينما الأمريكيون يبدأون بالنتائج كأن يقال" إنّ الإمبراطورية العثمانية انهارت لأسباب ثلاثة أساسية". ويلحظ الكاتب ان استخدام " كيف" يغلب عند اليابانيين بينما "لماذا" هي الاغلب عند الأمريكيين. وتنقل المؤرخة ماساكو فاتانابي عن أميركي يعلّم الإنكليزية كلغة ثانية قوله:" كم هو عسير على المعلمين الأمريكيين ان يفهموا بحوث الطلاب اليابانيين لأننا لا نرى فيها أي إشارة سببية".
وكذلك ينفرد العالم الآسيوي بنظرة يستغربها الغربي. يستشهد الكاتب بتجربة قام بها عالم نفس النمو "ليانج هوانج شيو" وهي عبارة عن صورة تحتوي ثلاثة رسومات الرسم الأوّل عبارة عن بقرة والثاني دجاجة والأخير كمية من العشب وعرض الصورة على مجموعة من الأطفال الأمريكيين والصينيين, وطلب من كل مجموعة تحديد أي من العنصرين ينتميان إلى بعضهما البعض, وجد ان الأطفال الأمريكيين ربطوا بين البقرة والدجاجة بناء للانتماء التصنيفي للحيوانات بينما الأطفال الصينيون ربطوا بين البقرة والعشب أي كانت انطلاقتهم في تصنيف الأشياء مغايرة لنظرة الأمريكيين فهي تنطلق من مفهوم العلاقات أي ان البقرة على صلة مع العشب أكثر مما هي على صلة مع الدجاجة.لان البقرة تأكل العشب.التجربة نفسها قام بها المؤلف باستخدام الكلمات لا الصور وكانت النتيجة نفسها مما يعني ان تصنيف العالم ليس واحدا عند الشعوب. هذه القصة البسيطة شديدة الدلالة على ان الإنسان يبني صورة عن العالم من خلال إطار ثقافي معين يعيشه وليس من خلال حقائق ثابتة غير قابلة للنقض. والكاتب يشير باستمرار إلى هذه التباينات لأنّ إغفالها من مسببات التوتّر بين الشعوب.
وثمة أمر آخر لا تخلو قراءته والتعمّق فيه من متعة وتفتّح أنظار جديدة على اللغة, وهو الفصل المعنون بـ"هل العالم مؤلف من أسماء أم من أفعال؟ " قد يبدو السؤال ساذجا إلا انه في الحقيقة من الأسئلة التي تكشف عن بصيرة رائعة يتمتع بها الكاتب بحكم امتلاكه للرؤيتين المختلفتين عن العالم, الرؤية الغربية بنت التراث الإغريقي والمنطق الصوري, والرؤية الشرق آسيوية ذات الجذور الكونفوشيّة.وهو يتبنى فيما يبدو الاتجاه اللغوي القائل بان الإنسان لا يمكن له ان يتصور العالم إلا كما تصوره له لغته واختلاف البناء اللغوي ليس اختلافا شكليا فقط دون أي ارتباط بالبناء الذهني للناطقين بهذه اللغة أو تلك, بمعنى ان الكاتب يؤمن بالفرضية اللغوية التي قال بها العالمان في الأنثروبولوجيا اللسانية ادوارد سابير وبنيامين وورف، اللذان ذهبا إلى ان عمليات التفكير المعتادة لدى الناس تعكس فوارق البنى اللغوية. ويعتبر الكاتب ان هذه الفرضية التي لاقت قبولا ورفضا وجدلا بين علماء اللسانيات وعلماء النفس على مدى عقود تعيش الآن أزهى فتراتها التي تحظى بقبول عام. وهو في هذا الفصل يربط بشكل محكم بين اللغة والفكر, ويقول بما ان التفكير الآسيوي يقوم على مفهوم العلاقات كان لا بد للغته من ان تهتمّ بالأفعال في الدرجة الأولى وليس بالأسماء. كما ان قيام التفكير الغربي على الموضوعات والتصنيفات بحسب الفئات، أدّى بدوره إلى ان يقع الغرب أسير الأسماء. وهذا ما يتبدى في طور اكتساب اللغة, لاحظ المؤلف من خلال الاختبارات ان الأم الاميركية استخدمت الأسماء مع أطفالها ضعف استخدام الأم اليابانية بينما الأم اليابانية استخدمت الأفعال مع أطفالها ضعف استخدام الأم الأمريكية. يقول الكاتب مستشهدا بقول لعالم النفس المعرفي ديدر جنتنر:"ان الأطفال يتعلمون الأسماء أسرع كثيرا من تعلمهم للأفعال, والأطفال الذين يَحبون يمكنهم تعلم الأسماء بمعدل اسمين في اليوم الواحد وهذا معدل أسرع كثيرا من معدل تعلم الأفعال". ان هذا القول الذي كان يعتبر قاعدة عامّة تنطبق على كل اطفال العالم اثبت نسبيّته, تقول عالمة نفس النموّ تويا تارديف:" ان أطفال شرق آسيا يتعلمون الأفعال بالمعدل نفسه لتعلم الأسماء, وبسرعة اكبر كثيرا من سرعة تعلمهم الأسماء".
ويشير المؤلف إلى ناحية من نواحي تركيب الجملة في اللغات الآسيوية وهي" ان الأفعال أكثر وضوحا وبروزا في لغات شرق آسيا منها في اللغة الإنجليزية ولغات أوروبية كثيرة إذ تنزع الأفعال في اللغات الآسيوية إلى ان تأتي إما في أول الجملة أو في آخرها, وكلاهما موقعان واضحان نسبيا، ونلحظ في اللغة الإنجليزية ان الفعل عادة يكون مختفيا وسط الجملة". ويعتبر المؤلف سبب ذلك "أن الذات هي صانعة الفعل عند الغربيين بينما الفعل لدى أبناء شرق آسيا يجري النهوض به في تضافر وتنسيق مع الآخرين".
ان غاية الكتاب الأساسية هي التبصر بما آل إليه العالم اليوم من صدام ثقافي يندد به. فالكاتب يؤمن ان الصدام الثقافي ابن الغباء البشري لا غير, هو ابن انغلاق القوى المتحكمة اليوم بمصائر أهل الأرض كما انه نتيجة نظرة عبر بؤرة ضيقة لا منفرجة الزاوية, ويتوقف عند مصطلحين كثر الحديث عنهما في الآونة الأخيرة, الأوّل هو مصطلح " نهاية التاريخ " الذي أتى به فوكوياما بمعنى الفوز النهائي للرأسمالية والديمقراطية, والثاني مصطلح" صدام حضارات"الذي أتى به صمويل هنتنغتون ونظرته سوداوية "لأنه يحصر هذه القوى داخل تضاد فيما بينها لا فكاك منه بسبب الاختلافات التي لا يمكن التوفيق بينها من حيث القيم والنظرة إلى العالم", ويرى الكاتب ان الغرب من خلال مقولاته هذه إنّما" يضع نفسه في مأزق زائف ولا أخلاقي وخطر".
ويختم الكاتب بنظرة تفاؤلية مصدرها رحابة نظرته وتعمّقه في الثقافات فيسمي نظرته بـ" الرؤية الثالثة" ومفادها ان العالم يمكن ان يكون على طريق التلاقي وليس اطراد التباعد, غير انه تلاق ليس مبنيا على التغريب الخالص ولا التشريق الخالص, من خلال صور معرفية جديدة هي مزيج من المنظومات والقيم الاجتماعية, فيشير إشارة دالة إلى أنّ كثيرا من الأطباء الغربيين مثلا يقبلون بعض الأفكار العامة عن الطب الكلّي أي الذي يعتمد على النظرة الكلية للإنسان والبيئة, كما انه يعبر بصورة مجازية مستلة من أطباق الطعام عن التمازج فيقول صحيح ان العالم يشرب الكوكاكولا ويرتدي الجينز إلا أننا نجد الغربيين يضيفون إلى أطعمتهم أطعمة شرقية. ويعتبر ان المستقبل سيكون مثل طبق تتآلف مكوناته من مصادر ثقافية مختلفة, ويختم كتابه بالقول" ولعلنا لا نبالغ في الأمل بأن هذا الطعام سيحتوي على أفضل ما في الثقافتين".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق