لم تكن الصين بعيدة من اتصال العرب المسلمين بها، ولم تكن عصيّة على معرفتهم، وتصوراتهم، فكانت حاضرة، في شكل مبكر، في اتصالاتهم ومعارفهم، ومتخيلهم، شجع على ذلك الاحتكاك العربي المبكر بها، فلم يأت القرن الثاني الهجري حتى امتلأت سواحلها والجزر القريبة منها، بالجاليات العربية، التي عاشت على هامش النشاط التجاري والبحري. فامتلك العرب متخيلاً عاماً عن حضارة الصين، ولعل ما يوحي بذلك الحديث المأثور"اطلبوا العلم ولو في الصين"الذي حمل في طياته الإشارة إلى بعد الصين، وإلى ما تختزنه من علوم، إلى أن بدأ عصر التدوين في القرنين الثاني والثالث الهجريين، ونشط التأليف الأدبي، وكتب الأنساب والجغرافيا، والفلسفة والفقه، ومدونات التاريخ، وهذه الأخيرة طمحت إلى الإحاطة بالتاريخ العالمي برمته، باعتباره قصة أمم يقودها ملوك، ورسالات نبوية نزلت على هذه الأمم، توجتها رسالة النبي محمدصلى الله عليه وسلم. على أمته، الأمة الخاتم، التي ينفتح بها أمام العرب التاريخ الكوني بحق، الذي تحتل فيه الأمة الصينية مكاناً مرموقاً، وكان أفضل نموذج لهذا السردية التاريخية قدمها الطبري، والمسعودي، واليعقوبي، وابن الأثير وغيرهم، واكملت هذا الطموح إلى العالمية المدونات الجغرافية الكبرى في دأبها المحموم للإحاطة بالعالم برمته، بأممه وحضاراته، وأقاليمة المختلفة، فضلاً عن الرحالة الذين واكبوا ذلك الفضول المعرفي للعالم.
هيمن جانب الإعجاب، والتبجيل على نظرة العرب نحو المدنية الصينية، وأبرزت تلك النظرة تفوق الصينيين في مجالات شتى، لا سيما في تقنياتها الدقيقة، وصناعتها، وزخرفها وتصويرها، وفي ألبستها الحريرية الرائعة الإتقان، وثرائها، وفي النظام المدني الدقيق الذي يكتنف حياة سكانها، وفي تقسيم مدنها، وترتيبها لعلاقتها مع الغريب، والتاجر العابر للبلاد، هذا إذا لم نتحدث عن إعجابهم بطريقة إدارة سلطانها، وملوكها للحكم ولأحوال الرعية، الذي سنتطرأ إليه لاحقاً.
فذهبت شهادة سليمان التاجر إلى حد القول إن"أهل الصين من أحذق خلق الله كفاً بنقش وصناعة، وكل عمل لا يقدمهم فيه أحد من سائر الأمم"، وترتبط شهادة الكفاءة، والتفوق بتقدير من الملك نفسه، فالرجل الذي يجد في نفسه التفوق في صناعة ما، ويجد أن غيره يعجز عن مجاراته يقصد الملك"يلتمس الجزاء على لطيف ما ابتدع، فيأمره الملك بأن يقف على بابه سنة كاملة،"فإن لم يُخرج أحداً فيه في صنعته عيب جازاه وأدخله في حملة صُنّاعه، وإن أُخرج فيه عيب أطرحه ولم يُجازه"، ونوه الثعالبي بهذا التفوق الصيني الصارخ، إذ"كانت العرب تقول لكل طرفة من الأواني، وما أشبهها: صينية، كائنة ما كانت، لاختصاص الصين بالطرائف، وقد بقي هذا الاسم إلى الآن على الصواني المعروفة، وأهل الصين قديماً وحديثاً خصوصاً بصناعة اليد، والحذق في عمل الطُرف والملح، يقولون:"أهل الدنيا ما عدانا عُمى، إلا أهل بابل فإنهم عور"، ولهم كما يقول القزويني:"يد باسطة في الصناعات الدقيقة، ولا يستحسنون شيئاً من صناعات غيرهم"، وهم أحذق الناس بالمهن والصناعات لا سيما التصوير".
وقد أجمل الثعالبي في نص معبر، عن أبرز المجالات التقنية التي أبدع بها الصينيون،"ولهم الإغراب في خرط التماثيل، والإبداع في عمل النقوش والتصاوير حتى أن مصورهم يصور الإنسان، ولا يغادر أي لا يترك له شيئاً إلاّ الروح، ثم لا يرضى بذلك حتى يصوره ضاحكاً، ثم لا يرضى بذلك حتى يفصل بين ضحك الشامت، وضحك الخجل، وبين المبتسم والمستغرب، وبين ضحك الهازئ، فيركّب في صورة، وصورة في صورة". إذ أثار العرب إتقان الصينيين لفن الرسم والنحت والتصوير، وأبهرهم، فإن رجلاً منهم، بحسب سليمان التاجر،"صور سنبلة عليها عصفور في ثوب حرير، لا يشك الناظر إليها أنها سنبلة وأن عصفوراً عليها". وأصاب ابن بطوطة العجب والدهشة، عندما لمس دقة رسومات فناني الصين،"فإما التصوير فلا يجاريهم أحد في إحكامه، من الروم ولا من سواهم، فإن لهم فيه اقتداراً عظيماً، ومن عجيب ما شاهدته لهم من ذلك، أني ما دخلت قط مدينة من مدنهم، ثم عدت منها، إلاّ ورأيت صورتي وصورة أصحابي منقوشة في الحيطان والكواغد ورق حرير، موضوعة في الأسواق". فكان حديثه عن فنون الصين، حلقة متميزة عن إعجاب العرب في مختلف العصور بفنون الصين التشكيلية.
وأثارتهم أيضاً صناعة الخزف الصينية، وعبروا عن ذلك بإعجاب"ولهم الغضائر المستشفة - بحسب الثعالبي-، يطبخ فيها البطيخ، فيكون الواحد منها قدراً مرة، ومقلى تارة، وقصعة أخرى، وخيرها المشمشي الرقيق الصافي الشديد الطنين، ثم الزبدي على هذا الوصف، ولهم الفرند الحرير الملون من الثياب الفائق، والحرير المدفون، الذي تخفى فيه الصور وتظهر ويقال له: الكمخا الحرير الموشى أو المشجر. ولهم المماطر واق من المطر المشمعة التي لا تبتل على الأمطار الكثيرة، ولهم مناديل الغمر التي يتلقى فيها الآكل دسم الطعام، التي إذا اتسخت القيت في النار فنقيت، ولم يحترق منها شيء، ولهم الحديد المصنوع يعمل منه المرائي والتعاويذ وغيرها، ولهم السنجاب الفارماني الذي هو من أنفس الآبار، ولهم اللبود التي تُفضل على اللبود المغربية". وتحدث ابن بطوطة، أيضاً، عن صناعة الخزف الغضار وشاهد طريقة صنعه بمدينة الزيتون فأشار إلى أن الفخار الصيني، لا يصنع منه إلاّ بمدينة الزيتون وبصين كلان، وهو من تراب جبال هناك. ويضيفون إليه حجارة من عندهم، توقد فيه النار ثلاثة أيام، ثم يصبّون الماء، فيعود الجميع تراباً، ثم يخمرونه، فالجيد منه ما خمر شهراً كاملاً".
كما أن المقريزي لم يفته الحديث عن عظمة أهل الصين في صناعة التكفيت، أي تطعيم المعادن بالذهب والفضة، عند حديثه عن سوق الكفتيين بمصر. وكذلك الكداهي، أي الأواني الفضية، المصدرة من الصين، كما أطنبوا في صناعة الحرير الصينية، وفي نسجهم له، وفي خياطتهم لثياب الحرير، روى بزرك عن تاجر اسمه كاوان زار الصين وقابل ملكها البغبور، فأدخله الملك إلى بستان بخانفو رأى فيه النرجس والمنثور وشقائق النعمان، والأنوار زهر أبيض فعجب كاوان"من اجتماع الأنوار الصيف والشتاء في وقت واحد في بستان واحد"، ولم يخطر لبال كاوان أن ما يراه زهوراً مصنوعة من نسج الحرير، فسأله الملك وكيف ترى فأجابه كاوان"ما رأيت حسنة، إلاّ وهذا أحسن، فأخبره الملك عندئذ أن"جميع ما ترى من الأشجار والأنوار معمولة من الحرير"فلمسه كاوان وتقراه بيده، فتأكد أن"الورق والأنوار من الحرير، فقد عُمل وضُفر وحُبك ونُسج وسوّي، ومن رآه لم يشك فيه أنه شجر ونور". وهو ما يُظهر براعة الصين في نسج الحرير، وصناعته، كما روى سليمان التاجر، في هذا السياق، عن تاجر لا يشك في خبره، أنه عندما كان في خانفو للتجارة، قابل خصي الملك، الذي أنفذه سيده"ليتخير ما يحتاج إليه من الأمتعة الواردة من بلاد العرب"فرأى على صدره خالاً يشف من تحت ثياب الحرير، فعجب الرجل من خال يشف من تحت هذه الثياب"، وكانت مفاجأته ودهشته أكبر، عندما أظهر له الخصي، أنه يلبس"خمسة أقبية بعضها فوق بعض والخال يشف من تحتها". وشهد ابن بطوطة على ضلوع الصين في صناعة الحرير، وتربية دودة القز. وأن تفوقهم في الصناعة أهّل بعض صناعهم، كما يقول ابن فضل العمري، على صنع سرج من أختاء البقر، وأبدعوا في صنعه، لدرجة أن الخان نفسه أعجبه، كما عمل بعضهم الآخر"ثياباً من ورق، وباعها إلى التجار على أنها من الكمخا".
واعترف لهم المصنفون العرب في إتقانهم علوم الطب وممارستها، فإذا كانت الهند تشتهر بطبّها وفلسفتها فإن"لأهل الصين أيضاً طباً، وأكثر طبهم الكي، ولهم علم بالنجوم".74 ولمّا سأل ابن فضل العمري للشريف السمرقندي الضليع بمعرفة الصين: عن أهل الصين وما يُحكى عنهم من رزانة العقل، وإتقان الأعمال"، أجابه السمرقندي:"هم أكثر ما يقال"، وأتاه بمثل عن براعتهم في الطب، أن صديقة العلامة أبا ثناء الأصفهاني، كان يشكو من ألم ضرسه، فاستدعى أصدقاؤه الصينيون"شخصاً حطاباً"، أخرج له درسين من فمه من دون أن يشعر بالألم، ثم"لم يزل يقيس مواضع ما قلع حتى وضع موضعهما ضرسين بديلين"."ثم ذرّ عليهما ذروراً، ودهنهما بدهن، التأمتا به لوقتها".
ولم يغفلوا عن تفوق الصين في الطبخ، فحكوا عنهم، أن في مدنهم"مطابخ مطاعم يطبخ فيها الأطعمة الفائقة والمشروب اللذيذ مما لا يوصف حسنه"لدرجة أنه يمكن أن يُقدم إلى الملوك، وقد اعتاد الأكابر منهم على الطلب من هذه المطابخ وجبات للطعام، فيطبخون لهم"من بدائع المأكولات والمشروبات"وهذه المطابخ العامة، تُقدم في قاعاتها الطعام لزبائنها، وما يحتاج إليه من البسط والفرش والآلات والغلمان، على قدر ما حدّده له المصيف من القيمة".
ومن عجيب ما شاهده ابن بطوطة في مدينة الخنسا، أن في أسواقها يصنعون أطباقاً"يسمونها الدست، وهي من القصب، وقد ألصقت قطعه أبدع الصاق، ودهنت بصبغ أحمر مشرق، وتتكون هذه من عشرة أطباق: واحدها في جوف آخر لرقتها، تظهر لرائيها كأنها طبق واحد، ويصنعون غطاء يغطي جميعها، ويصنعون من هذا القصب صحافاً، ومن عجائبها أن تقع من العلو ولا تنكسر، ويجعل فيه الطعام الساخن فلا يتغير صباغها، ولا يحوّل".
* كاتب سوري
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق