الثلاثاء، 10 أكتوبر 2017

سيرة ذاتية لكتاب منبوذ


الكتب لها سير ذاتيّة، والسِيَر عِبَر. ولا أعرف لماذا تستهويني قراءة لعبة الأقدار التي تطارد الكتب، وتقرّر مصيرها، وتُخفيها عن الأنظار ثمّ تدفعها، من جديد، إلى عالم الأضواء؟ لعلّ ذلك يعود إلى حزني على كثير من الكتب العربية التي بلعتها المياه، أو أكلتها النيران، أو دُفنت وهي حيّة ترزق كالموؤودات، أو قابعة في مكان ما تنتظر قبلة محقّق يعيد إليها الحياة على غرار تلك القبلة التي طبعها ذلك الأمير الخرافيّ على ثغر الأميرة النائمة فاستعادت وعيها وحياتها وألقها.
بعض الكتب لم يبق لنا منها إلاّ عناوينها كما أغلب كتب المسعوديّ التي ذكرها في فاتحة كتابه البديع أو بالأحرى موسوعته الجغرافية والتاريخية والأدبية والإنتولوجيّة وأقصد موسوعته " مروج الذهب ومعادن الجوهر" ، وهي أكثر من ثلاثين كتاباً ذهبت، ربّما، أدراج الرياح. فالمفقود من الكتب قد يكون كالابن الضالّ الذي يعود إلى الظهور. وهذا ما كان من أمر كتاب موسوعيّ ضخم من عدّة مجلّدات وهو: "المغني في أبواب التوحيد والعدل"، للقاضي أبي الحسن عبد الجبّار الأسدآبادي وهو أحد كبار رجالات المعتزلة . كتابٌ بقي لقرون متوارياً عن الأنظار، وتقليب الأيدي إلى أن عُثر عليه بمحض المصادفة في اليمن، فغيّر الكثير من رأي الناس بالمعتزلة، لأنّه كتاب بقلم واحد من أهل البيت المعتزليّ.
التاريخ ظلم أهل التوحيد والعدل، فلحقهم الاضّطهاد وطردت كتبهم من مملكة الكتب العربية، فكان العثور على هذا الكتاب فرصة ذهبية ليستعيد العرب بعضاً من تراثهم الغنيّ، والمتنوّع، ويعيدوا على ضوئه قراءة فكر الاعتزال.  وقام أقطاب من رجالات الفكر بتحقيق الكتاب، وأكتفي بذكر اسم أمين الخولي وطه حسين والمحقّق الجليل إبراهيم الأبياري.
ثمّة نوع من الكتب يعيش عيشة غريبة، عيشة المتشرّدين في لغات الآخرين قبل أن يعود إلى بلاده بعد أن يكتسب جنسيّة جديدة، وألفباء جديدة. وكأنّ الآخر يمنحك فرصة أن ترى ما يستحيل أو يتعذّر عليك رؤيته من خلال هويّتك الحقيقيّة. اللفّ والدوران جزء من مصائر الناس والأشياء والكتب بالتأكيد.
كتب الروائي محمّد شكري، على سبيل المثال، كتابه "الخبز الحافي" بالعربيّة في العام 1972، وهو رواية أو مقاطع من سيرة ذاتية صادقة وصادمة للعادات المغربية والعربية، فتعذّر عليه أن ينشره في بلده لجرأته، وجرأتُه لم تكن أكثر من توصيف لوقائع ومشاعر وأحداث وطنيّة أو شخصيّة. الاضطهاد يصيب الناس بقدر ما يصيب الكتب والأفكار. المنع سيف أعمى أو قصير النظر. ولكن وجد الآخرون في "الخبز الحافي" عملاً أدبياً رائداً، فترجمها الإنكليزيّ بول بولز عاشق طنجة عام 1973 إلى الانكليزية، ثمّ نقلها الروائيّ الفرنكوفونيّ الطاهر بن جلّون الى الفرنسية فأبصرت النور الإنجليزيّ والنور الفرنسيّ قبل أن ترى النور العربيّ إلاّ بعد عشر سنوات من التغرّب اللغويّ. كانت لغة الآخر مدخل روايته الى لغتها الأم، وهذا من مهازل الأقدار العربية الراهنة.
كنت أقرأ، منذ فترة، في كتاب " مُساورات الكلمات" للدكتور نصر الدين لعياضي، وكلمة "مساورات" ربّما كانت من الكلمات الغريبة للوهلة الأولى، وعدد لا بأس به من الكلمات يبدو للناظر غريب الملامح والدلالات، رغم ألفة بعض مشتقاته، فنحن نستعمل وبكثرة العبارة التالية:" ساوره الشكّ"، والمساورات على صلة رحم ومعنى بفعل "ساور". كتاب الدكتور لعياضي وزّعته مجلّة " الرافد" التي تصدر في الشارقة تحت الرقم 145 ، وهو مجموعة من المقالات اللطيفة، وسهلة الهضم. وكان من جملة المقالات واحد عن مصير كتاب عربيّ لا تختلف سيرته كثيراً عن كتاب محمّد شكري، من جهة نشره في لغة أجنبية قبل أن يبصر النور في لغته العربية. إنّ الرواية التي نالها التشرّد اللغويّ لها من اسمها نصيب كما يقال، فهي بعنوان " المنبوذ" للكاتب السعودي عبد الله زايد الذي يقول: عرضت روايتي على دار نشر عربية، فطلبت مني ثلاثة آلاف دولار أميركي، وهو مبلغ بالنسبة للكاتب كان باهظا. وقال: أولادي أحقّ بهذا المبلغ.  ويضيف الروائي: عرضتها على شخصية أدبية مشهورة في مجال الرواية والشعر لكتابة مقدمة لها لعلّها تشفع لي بالمرور الى عالم النشر، لكنه اعتذر دون أن يقرأها. وبقيت الرواية سجينة الكمبيوتر إلى غاية اليوم الذي سألتني فيه إحدى الصديقات المقيمة بإسبانيا عن انتاجي الجديد، فأرسلت لها المخطوط للاطّلاع عليه لا غير، فقامت بترجمة بعض صفحات الرواية الى اللغة الاسبانية، وعرضتها على الروائية الاسبانية روسا ريفاس مديرة المكتبة الوطنية في مدريد، فتبنتها وكتبت مقدمتها، ونشرتها باللغة الاسبانية، بعدها صدرت باللغة العربية، ودفع الناشر تكاليفها. ولولا اللغة الفرنسية، يقول المؤلف، ما كان لهذه الرواية ان ترى النور. والطريف أنّ بعض النقاد ظنّوا أنّ الرواية كتبها المؤلف باللغة الاسبانية ثم ترجمت إلى اللغة العربية.
هناك كتّاب مرموقون جدّا من شتّى أنحاء العالم عانت كتبهم قبل النشر، منهم مرسيل بروست صاحب " البحث عن الزمن الضائع"  التي اعتبرها الروائيّ الفرنسيّ الكبير أندريه جيد غير صالحة للنشر،  ثم عضّ أصابعه، فيما بعد،  ندامة على هذا الرأي. القدر يضحك أحياناً بملء شفتيه من آراء كبار النقاد ، ويخيّب ظنّهم ويضرب بتوقعاتهم عرض الحائط.
 فالروائيّ الكولومبيّ الشهير غارسيا ماركيز صاحب " مائة عام من العزلة"، كان قد أرسل في العام 1952 روايته الأولى " عاصفة الأوراق" إلى دار النشر لوسادا في بيونس آيرس، وسرعان ما وصلته رسالة جوابية محطّمة للعزائم من مدير دار النشر وهو الناقد الاسبانيّ اللامع غيرمو دي توري، قائلاً للروائيّ الناشىء بأنّه ليس لديه أيّ مستقبل في كتابة الرواية، واقترح عليه البحث عن مهنة أخرى. مزّق الروائي الكولومبي رسالة الناقد، وتابع طريقه إلى استوكهولم لاستلام جائزة نوبل للآداب.
وما أكثر سير الكتب التي تستحقّ أن تروى!


بلال عبد الهادي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق