الأحد، 29 أكتوبر 2017

ما مينغ شين كان فقيراً يشفق على الفقراء، ولما تمكن من القيادة منع جمع الأموال منهم، لبناء القباب والمساجد وتزيينها، وخفف عنهم بعض الطقوس



القدس-رام الله- نقطة واول السطر-

"إيشان" كلمة فارسية معناها "هم" وأصحابها من أوائل الذين سموا بالصوفية في وسط آسيا. وفي القرن الحادي عشر انتقلوا من مناطق بخارى وسمرقند إلى شنجيانج، فأصبح اسم إيشان مختصا بالصوفية هناك. وكان من بين هؤلاء الوافدين: هابي بلاكي الإيشاني، وأبو حب كبير، وراشد والي، والشيخ شاهبدين، وخوجة محمد يوسف، وخوجة هوا داود محمود، وخوجة محمد شريف، وسعيد أحمد كيسان بن جلال الدين، وغيرهم.
وصل هؤلاء الوافدون وغيرهم إلى شنجيانج في الفترة ما بين القرنين الرابع عشر والسادس عشر، فأخذوا ينشرون التعاليم الصوفية في مدن: "كاشغر" و"آتوش" و"كوتشار". وفي الفترة الممتدة من القرن السابع عشر إلى الأربعينيات من القرن المنصرم ظهر في شنجيانج عدد من الصوفيين منهم: عبدالرحمن وميان مصموح، سيان ناصر خان، وكرم حان، قدموا من آسيا الوسطى إلى كاشغر ويارقند وخوتان ويتشنغ في شنجيانج، حيث نشروا التعاليم الصوفية، وكثير من الصوفية –اليوم- هناك يحتفظون بسلسلة نسبهم لهؤلاء، وهذا دليل على أن أصولهم كانت من بلاد العرب.
وقد ظلت الصوفية في شنجيانج تعرف باسم "إيشان" حتى القرن الثامن عشر، حيث بدأت تدخل إلى مناطق تشينغهاي وقانسو ونينغشيا في شمال غرب الصين، فتأثرت بالبوذية وبالثقافة الصينية، فظهر ما يسمى "منهوان".
أما منهوان فهو لفظ يطلق على جميع المذاهب الصوفية الموجودة في الصين، وتذكر المصادر الصينية أن هذا اللفظ يحتمل معنيين: الأول أنها كلمة صينية أصيلة وتعني الأشخاص ذوي القوة والنفوذ. والثاني يقول بأن المرشد السادس للصوفية "ماشيان جونغ" قد افتتح فصولا للدراسة وألحق بها أبناء المسلمين وغير المسلمين، وكان لذلك أثره في خلق جو من المودة بين المسلمين وقومية هان، فكرمته حكومة أسرة تشينغ ومنحته لقب "منهوان".
فروع منهوان:
القادرية: هي أحد الفروع الأربعة لمنهوان في الصين، وقد وردت إلى الصين من الخارج، وتنسب لشيخها الأول عبدالقادر الجيلاني. وقد وصلت الصين في الفترة (1662-1795)، حيث وصل إلى الصين عدد من أتباع هذه الطريقة ومن أشهرهم "خوجة عبدالله" الذي يقول عنه أتباعه: إنه من ذرية النبي.
وقد سماه أتباعه "بان لونغ" أي "التنين المجعد" تعظيماً له وإكبارا، وقد رحل إلى مناطق كثيرة في الصين، ففي عام 1674 وصل إلى مقاطعات قواندونغ وقوانغشي وسيتشوان على التوالي، وحط رحاله في قانسو وتشينغهاي، حيث قام بنشر التعاليم القادرية.
وأتباع القادرية يتبعون المذهب الحنفي، وقد تأثروا بالثقافة الصينية التقليدية عبر الزمن خاصة في طقوس الجنائز، وهم -إلى جانب الشعائر الأساسية- يدعون إلى التأمل الذي لا تحصل طاعة الله إلا به.
يتركز اليوم أكثر القادرية في شمال غرب ووسط الصين، وأغلبهم يسجدون أمام القباب وأمام قبور مرشديهم، وبعضهم لا يتزوج النساء. وهناك طائفة منهم لا يسجدون للقبور ويتزوجون النساء، وهؤلاء موجودون في نينغشيا وزعيمهم الحالي اسمه "ما تشنغ هاي"، وبالعموم فإن مساجد القادرية قليلة بعض الشيء، ويقدر عددهم اليوم بحوالي (250000).
الكبرية: تذكر الكتب الصينية أن هذه الطريقة تنسب إلى شيخ عربي اسمه محيي الدين، وقيل أتى إلى الصين ثلاث مرات، وقام بنشر التعاليم الكبرية في قوانغدونغ وقوانغشي وهونان وهوبي وشنجيانج وخنان وتشينغهاي وقانسو على التوالي، واستوطن قرية دوانتو في محافظة لينشيا بمقاطعة قانسو. والكبرية –اليوم- موجودون في مناطق شمال غرب الصين، وأعدادهم قليلة بالمقارنة بالطرق الصوفية الأخرى.
الخفية النقشبندية: إحدى أكبر الطوائف الصوفية الموجودة في الصين، ولها فروع كثيرة مثل المفتي، بيجياتشانغ، بيتشوانغ، هومن، شيانمن، فامن، ونتشيوانتانغ، وغيرها، لكن كبرى هذه الطرق وأشهرها طائفة "هواسي الخفية" التي تأسست على يد الشيخ "ما لاي تشي" (1681-1766)، الذي سافر إلى الجزيرة العربية وأدى فريضة الحج ثم تنقل في عدد من البلاد العربية، فزار دمشق وبغداد والقاهرة، ثم بقي في اليمن مدة درس خلالها الطريقة النقشبندية ثم عاد إلى الصين عام 1734م، وأخذ ينشر التعاليم الخفية أينما ذهب. وانتهى به الأمر بتأسيس طائفة "هواسي" الخفية النقشبندية.
سميت هذه الطريقة بـ"الخفية" لأنها تدعو إلى ممارسة الأذكار خفية أو سرا وعدم رفع الصوت بها. وقد لقيت انتشارا واسعا في مناطق شمال غرب الصين.
الجهرية النقشبندية: إحدى الطرق الصوفية في الصين، وسميت بـ"الجهرية" لأن أتباعها يدعون إلى الذكر وقراءة القرآن جهرا. وتنسب هذه الطريقة إلى مؤسسها "ما مينغ شين" (1719-1781) واسمه العربي: إبراهيم، ولد في مقاطعة قانسو وتكفله عمه بعد وفاة أبيه، ودرس اللغة العربية والعلوم الإسلامية ثم خرج مع عمه إلى مكة لأداء فريضة الحج عام 1728، فتخلف عن عمه في بخارى، حيث بقي فيها مدة ثم ارتحل منها إلى اليمن حيث درس النقشبندية الصوفية هناك. وزار مكة وأدى فريضة الحج مرارا، ثم عاد إلى الصين عازما على نشر ما تعلمه وتصحيح بعض الأخطاء التي كانت سائدة بين المسلمين الصينيين.
ولأن "ما مينغ شين" كان فقيراً، فقد كان يشفق على الفقراء ويحس بهم، ولما عاد إلى بلدته وجد الطوائف الصوفية هناك تتنازع فيما بينها، وكلٌ يتفنن في ابتداع وسائل لجمع المال والأتباع وبناء القباب والمساجد وتزيينها، وكانت أغلب هذه الأموال تحصل من الفقراء والعوام، وهذا كان يزيد من صعوبات الحياة لديهم؛ لذا فقد حدد منهجه في الدعوة كالآتي:


للإسلام هناك طابع آخر

- تخفيف صلاة الجمعة من 16 ركعة إلى عشر ركعات.
- إنكار جمع الأموال من المريدين وعوام الناس، بل دعا إلى ضرورة رعايتهم والتصدق عليهم.
- إنكار بناء القباب والمساجد الفاخرة والمزخرفة، وتوفير هذه الأموال لما ينفع الناس.
- ضرورة اختيار المرشد وفقاً لعلمه وفضله وأخلاقه، لا كما تفعل الطوائف الأخرى بأن يرث الابن أباه.
- ترديد الأذكار جماعياً وبصوت جهوري لما له من وقع في النفس، لا أن يستأثر المرشد وخلفاؤه –فقط- بالتلاوة.
- تحريك الجزء الأعلى من الجسم أثناء الذكر؛ حتى يعيش المؤدي بجسده وروحه في الذكر فتصفو نفسه.
بعد تحسن الأوضاع، استطاعت الجهرية أن تعود مرة أخرى للحياة، وانتشر مذهبها في مناطق كثيرة وحشد أتباعا كثر، لكنهم، وحتى يستطيعوا العيش وسط هذه الظروف، تخلوا –قليلا- عن بعض تعاليم "ما مينغ شين"، فأصبح منصب المرشد وراثيا، كما تخلوا عن مبدأ التخلي عن جمع الثروات، فأصبح عدد كبير من زعماء هذه الطائفة من ذوي الثراء، وعملوا على جمع الأموال وزخرفة مساجدهم.
والجهرية –اليوم- يعتزون بزعيمهم الأول "ما مينغ شين" باعتباره شهيدا قدم روحه فداء لمذهبه، وكذلك باقي أتباعه الذين قتلوا في الانتفاضات المسلحة، وقد سجلوا مآثرهم وتاريخهم كله في كتاب أسموه تاريخ الجهرية، وقد أهداني زعيم الجهرية في مدينة "ووتشونغ" في نينغشيا نسخة من هذا الكتاب قبل ثلاث سنوات.
وهم ينتشرون –اليوم- في مقاطعات شمال غرب الصين ووسطها، ويتميزون عن غيرهم من الطوائف الصوفية بالطاقية سداسية الأركان التي ترمز عندهم لأركان الإيمان الستة (الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر)، وشيوخهم -حتى اليوم- يحلقون جوانب لحاهم ويتركون وسطها تيمناً بزعيمهم "ما مينغ شين" حين تعرض للتعذيب على يد حكومة أسرة تشينغ وحلقوا له جوانب لحيته.
شيداوتانغ (مذهب الحضارة الصينية):سمي بذلك لشدة تأثره بالحضارة الصينية، ومؤسسه هو "ما تشي شي" (1857-1914) وقد درس الثقافة الكونفوشيوسية منذ صغره، ثم اتجه بعد ذلك لدراسة الإسلام عن طريق المؤلفات الصينية، وقد استفاد كثيرا من مؤلفات ومترجمات كل من "وانغ داي يوي"، "ليوتشي" و"ماتشو" وكانت دعوته هذه أمراً جديدا وغير مسبوق في ذلك الوقت، حيث أسس مدرسته الأولى وأعلن فكرته الأساسية فقال: "طبقا للمعتقدات الإسلامية، يعمل مذهبنا على إيضاح الإسلام والدعاية له بثقافة بلدنا، والهدف من ذلك هو إحاطة الصينيين علما بشريعة الإسلام".
وكالعادة، لم يرق فكر شيداوتانغ للمذاهب الأخرى، فاتهموه بأنه يفسد الفكر الإسلامي الصحيح بما يعتمد عليه من كتب لا علاقة لها بالإسلام، لكن "ما تشي شي" استمر في دعوته، وقد ساعده في ذلك فكره الاقتصادي ومهاراته التجارية، حيث نفذ بعض المشروعات التي أغنت هذا المذهب عن أن يمد يده إلى أحد، وساعد على إقبال الناس عليه ما كان يقوم به من رعاية كاملة لأتباعه.
حظي هذا المذهب باستحسان الصينيين غير المسلمين، حيث وجدوه جسرا يربط بين الثقافتين الإسلامية والصينية، وقد خصص الصحفي الصيني الشهير "فان تشانغ جيانغ" (1909-1970) بعض الصفحات في كتابه "الركن الشمالي الغربي من الصين" للتعريف بمذهب شيداوتانغ حيث قال: "إن هذا المذهب جدير بأن يستأثر بالاهتمام فلسفيا واجتماعيا، ذلك بأنه يشدد على أهمية الثقافة ويقوم بنشر التعاليم الإسلامية اعتمادا على الثقافة الصينية.

خلاصة من بحث إسامة عبد السلام منصور 'طوائف المسلمين في اصين: الوجود والاختلافات'، ضمن الكتاب 105 (سبتمبر 2015) 'الإسلام في الصين' الصادر عن مركز المسبار للدراسات والبحوث- دبي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق