الجمعة، 6 أكتوبر 2017

كلمات الرسالة البيضاء



مجرّد شعورك بأنّك مراقب يقلب حياتك رأساً على عقب، ويصير الرعب رفيقك الدائم، يقضّ مضجع كلماتك وأفكارك، وقد يتحوّل شعورك هذا بالنهاية إلى شبح مفترس.

هذا ما تحكيه قصّة بعنوان "وللجدران آذان"، خلاصتها أنّ أحد المغتربين أراد إرسال رسالة إلى أهله، ولكنّه حين بدأ بالكتابة تذكّر أنّ للجدران آذاناً، كما ورد في الأمثال، والأمثال، في زعْمه، لا تعرف الكذب. ولكنّه قال: بما أنّ للجدران آذاناً فلا بدّ أنْ تسمع ما أقول وما أكتب، بل لعلّها تعرف فكّ شيفرة صرير القلم الخفيض على الورق. عاش المجاز على أنّه حقيقة، فلاحظ وهو يكتب أنّ شكل الجدران في غرفته يتغيّر مع كلّ كلمة يكتبها، كان يسمع صوت تصدّعات خفيفة في الجدران، ويرى تشقّقات ترتسم كالخطوط السود في السقف فدبّ في كلماته الخوف، وفي نفسه شعور حادّ بأنّ الجدران تسمعه، تقرأ ما يكتب. ومع كلّ إحساس جديد يتغيّر شكل الجدران، تنبت فيها نتوءات كالآذان الصغيرة، وكان كلّما كتب كلمة أعاد شطبها مخافة أنْ تسقط رسالته، وهي في رحلتها إلى أهله، في يد قارىء مغرض، يقرأ على ذوقه، فيوقعه في ورطة. فليس أسهل من اللعب بالكلمات. والإنسان لفرط جهله يظنّ أنّه سيّد كلماته.

نبتت آذان كثيرة، وكانت، مع كل حرف، تنمو، وتزداد نموّاً، أيضاً، مع كلّ حذف، بل انتبه إلى أنّ الآذان تطول لسماع الكلمات الممحوّة أكثر من الكلمات التي لا تزال عارية على الورق. كلّ فقرة يكتبها تتحّول إلى صور، وأشباح. كان يقول إنّه في مأمن حيث هو، ولن يعود إلى بلده، يعيش نكرة ولكنه نكرة آمنة.  لا يخاف من أحد ولا أحد يخاف منه. ولكن هناك، حيث يعدّون على المرء أنفاسه وحركاته وتقلّباته في الفراش وعدد ثواني نومه، الأمر مختلف. وماذا لو أخذوا والدي رهينة، وطلبوا منه تفسير كلماتي؟ قد يحوّله الرعب إلى آلة تنطق بما يريدون سماعه، قد يعذّب، قد يقرأ تحت التعذيب ما شاؤوا. كان بعد كلّ كلمة يكتبها يتوقّف ويستعين بالقاموس، ليقرأ كل ما قيل عن هذه الكلمة. الاحتياط واجب، كان يقول.اكتشف أنّ بعض الكلمات العربية مرعبة تحمل معنيين متناقضين فكان يسرع إلى محوها، مخافة أنْ تتحوّل إلى مقصلة تطيح برؤوس من بقي من ذويه في البلاد.استهلك حبرا لمحو الكلمات أكثر بكثير مما استهلك للكتابة،حتى أشهر الكتّاب الذين اشتهروا بتنقيح كتاباتهم لم يستنزفوا الحبر الذي استنزفه في كتابة رسالة لا تتعدّى الصفحة. رسالة عاديّة، بسيطة، شديدة السذاجة. كانت الورقة تتحوّل، شيئا فشيئا، إلى اللون الفاحم، ولا تتخلّلها إلاّ بعض الفجوات البيض. ولكن مع كلّ حركة كانت الآذان تنمو وتلتهم من فضاء القاعة. كان يخاف على أهله من كلماته، وعلى كلماته من أهله أيضا. يخاف من هفوة فم، من زلّة لسان، من تهدئة خاطئة لحرف تقلب كلمات الرسالة رأساً على عقب كالرسائل التي تقرأ طرداً وعكساً. فكلمات كثيرة بريئة في الظاهر، ولكنّ خبثها متوارٍ في القراءة العكسيّة.ونادرة هي الكلمات التي تحافظ على شكلها طرداً وعكساً مثل كلمة "ليل" حيث إنّ قراءتها من الأوّل إلى الأخير أو العكس لا تغيّر شيئاً من لفظها ومعناها،  بل أنّ لصق كلمة بأخرى مجاورة قد ينجب كلمة تحمل إدانة له.وما يدريني_ يقول_ فقد يحلو لمن يريد إيقاعي في فخّ الكلام أن يلصق كلمتين أو يفصل مقطعَيْ كلمة فيولد معنى لم يمرّ بخاطري. لا أحد يمكنه أن يكتب نصّاً مقفلاً، جامداً على معنى يتيم خصوصاً أنّنا في زمن يلعب حتّى بالجينات.

كانت الآذان تنمو. كلّ فكرة يهجس بها تكون كالغذاء الذي تقتاته هذه الآذان الإسمنتيّة الغريبة. تعب من الكتابة، ومن تأويل ما يكتب، ومن الشطب والمحو والحذف. قرّر، في الأخير، إرسال ورقة بيضاء. هكذا، على الأقلّ، يعرفون أنّه لا يزال على قيد الحياة، ويصلهم شيء من أثره يحمل رائحته وبصمات يده. لكنّه انتبه إلى أنّ البياض ليس بالضرورة أن يكون لون النقاء أو البراءة، فليس أمهر من الكلمات في التملّص من دلالاتها إلاّ الألوان، فالأبيض لون حمامة السلام ولكنّه أيضاً لون الأكفان، كما أن البياض يحمل أحيانا معنى العمى أو فقدان النظر.

وقبل أنْ ينهي رسالته البيضاء، كانت الآذان قد نمت نموّاً زائداً، فلم يبق له من فضاء غرفته إلاّ الكرسيّ الذي هو عليه، حتّى لم يعد ما في الغرفة من هواء يكفيه للتنفّس، فاختنق بآذان الجدران.  وكانت كفّه، حين اكتشفت جثته، تقبض على ورقة تحمل كلمتين بخطّ عريض وحروفهما متشابهة تشابهاً قاتلاً:" قمع، عقم".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق