الجمعة، 3 أبريل 2015

حلاّق في الفرن
















بعض النجاحات، وهي قليلة، تأتي بلا دراسة او تخطيط، تكون أشبه بربح جائزة كبرى في اليانصيب. ولكن حتى اليانصيب ليس عملاً بلا دراسة او تخطيط! إنه رهان، في الأقل، على الاحتمالات، رهان يحسب، أحياناً، بالأرقام، وأحياناً، بشعوذات الجفْر. ولكن أغلب النجاحات، ولا سيما الكبرى منها، تقوم على تفكير مرن ووضع خطط استراتيجية قصيرة المدى وطويلة المدى، منها قصة حلاّق كنت قد شاهدت مقابلة معه في برنامج تلفزيوني فرنسي بديع اسمه (Capital) أي «رأسمال»، والبرنامج شديد الطرافة والإفادة، يحكي نجاحات الناس، او رحلتهم من أسفل السلّم الاجتماعي الى أعلاه، وهي رحلة لا تشوبها الألاعيب او ضروب الاحتيال، وإنما هي رحلة يقوم بها صاحبها بكدّه وجهده وتفكيره الخلاّق وصولاً الى برّ الإبداع.
كان الحلاّق قد حصل على شهادة في قصّ الشعر، إلاّ أنه لا يملك القدرة المالية الكافية لفتح صالون حلاقة، وفي الوقت نفسه لم يكن يرغب في ان يعمل موظفاً بسيطاً في صالون يحصد صاحبه تعب ومهارة أصابعه. لم يحبّ ان يستنزف طاقاته الآخرون، فقرّر البحث عن عمل خارج ميدان المهنة. عمل لا علاقة له مباشرة بمهنته. لم ينس مهنته، فللمقصّ في حياته قصة، فهو شغوف به شغفاً عظيماً، كما ان فتنته بتسريحة الشعر لا تعلوها فتنة، ومع هذا قرّر ان لا يدخل الى عالمه المهني من باب الشَّعر وإنما من باب الخبز. قد يقول قائل: وما علاقة الخبز بالشَّعر؟ وهنا أذكر، عرَضاً، تعريفاً طريفاً للفلسفة نطق به فيلسوف هنديّ إذ طلب منه ذات مرّة تعريف الفلسفة، فقال من غير تفلسف في العبارة وبإيجاز شديد: هي، بكل بساطة، حسن استخدام «واو العطف». ويبدو ان الحلاّق كان على وعي فذّ بهذا التعريف الثاقب.
قرّر، بعد دراسة كل الاحتمالات، العمل في فُرْن. وجد ان هذا العمل البعيد عن اختصاصه ليس بعيداً أبداً عن اختصاصه كما قد يتراءى لبعض الأذهان التي ليست على علاقة طيبة مع «واو العطف» البسيطة. يكمن دائماً خلف التباينات الشديدة وجه شبه ما خفيّ الملامح. لم ينظر الى الخبز نظرة جائع، وإنما نظر اليه من حيث هو باب من أبواب العلاقات الاجتماعية. وهو يدرك ان الحياة، قبل كل شيء، علاقات. والعقبات لا تنمو، فيما يبدو، إلاّ في الأمكنة التي تذوي فيها غصون تلك العلاقات.
ولكن ماذا يفعل حلاّق في فُرن؟ وهو لا يعرف شيئاً عن حياة الرغيف ولا عن تقريص العجين. قرّر ان يعمل مع الرغيف على مستوى العلاقات الخارجية، وهو توصيل طلبات الخبز الى المنازل. كان قراره وليد معرفة بالواقع الاجتماعي للحياة الانسانية. فالبيت مملكة المرأة، كما يقال. وعليه، فإن توصيل الخبز سوف يوصله الى مملكتها ومن ثم الى مملكة رزقه. لم يُظهر في البداية شهادته في قصّ الشَّعر، فالتخطيط، فيما يبدو، يتضمن أيضاً توقيت كشف الأوراق.
كان الفتى وسيماً، والوسامة وحدها ليست شرطاً للنجاح. وكان خلوقاً، والأخلاق وحدها ليست شرطاً للنجاح. وكان مُحدّثاً لبقاً، وهذا وحده لا يكفي. كانت زوّادته للنجاح، فضلاً عن كل ذلك، مهارة عالية في تخصّصه تلامس الإبداع. مع مرور الوقت، ألفته النسوة، كان يمرّر ابتسامة (من القلب) او كلمة حلوة (صادقة) مع كل رغيف الى ان أيقن ان ثمرة الوقت قد نضجت وصار البوح بمهنته الأصل قابلاً للتنفيذ. فأعلن مرّة لإحدى النسوة بأن مهنته حلاّق نسائي وبأنه يقصّ الشَّعر في المنازل للراغبات. وكان كلامه عن الشَّعر كلام عارف وخبير بأنواعه وألوانه وشكل القصّة التي تروح مع شكل الوجه.
كان يكفي لامرأة ان تغامر، امرأة واحدة لا غير، فحياته ومستقبله معلّقان على خُصلة شَعْر. وصار يعطي كل اللواتي أوْصل إليهن الخبز بطاقة تعريف به الى ان غامرت امرأة بتسليمه شعرات رأسها فخرجت من تحت مقصّه ومن بين يديه وكأنها امرأة أخرى، قصّة شَعْر غيّرت نظرتها الى نفسها في المرآة. وكرّت السُّبحة.
قال وداعاً للفرن (كان الفرن أشبه بحُجرة الوقود السفلى في الصاروخ التي تُفصل عنه بعد استهلاك حمولتها) ولكنه لم يقل وداعاً لخطّته. صار يعمل ويوفر ربحه لتأمين مبلغ يفتح به صالته المنتظرة، ولكن طموحه لا تحدّه جدران صالة. أحلامه تتوق الى نجاح غير معتاد. فاق عدد من يرغبن بقصّ الشعر قدرة يديه، ومع هذا أراد استيعابهن جميعاً. طلب موظفين، وكان ينقّيهم «على الطبليّة» كما يقال. صار عنده مزيّنون بالمئات. فاق طموحه حدود فرنسا، وصار لاسمه، في عالم التزيين، شهرة. فراح يلتزم الأفراح، ويتكفّل بتسريح شعرات المدعوّات. وصارت الأبعاد في متناول طائرة خاصة له تقلع بموظفيه الى الأفراح لتلبية رغبات الشَّعر.
كان حذراً شديد الحذر. فأحياناً، انهيار مشاريع كبرى يكون وليد خطأ صغير. والحياة لا يُؤمَن مكْرُها. من هنا، اعتمد على خبراء لإنقاذه في حال السقوط، خبير في الشؤون المالية وآخر في العلاقات العامة وثالث في القانون ورابع متخصص في التسويق وفن الإعلان.
لم يعد يعمل بيديه إلاّ في النادر. ولكن المقصّ المجازي القابع في تلافيف دماغه لم يكفّ عن العمل. ويبدو ان شرط النجاح هو ذلك «المقصّ الذهنيّ المجازيّ» الذي يُتقن تحويل الأدوات البسيطة الى امتدادات بديعة للطموح البشريّ.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق