السبت، 11 أبريل 2015

حمار آدميّ

الحكايات التي تتناول الحمير كثيرة، وطرائفها لا تنفد، ولقد تحوّل الحمار المغلوب على أمره إلى رمز للغباء والبلادة وما شئت من أوصاف ساقطة ومقذعة. ولعلّ هذا ما حدا بالكاتب المصريّ توفيق الحكيم إلى تخصيص كتابين طريفين عن الحمار، وهما بمثابة ردّ اعتبار لهذا المخلوق الذي أسيء كثيراً فهمه كما أسيء استخدام اسمه، أوّلهما بعنوان: "حمار الحكيم"، والثاني بعنوان: "حماري قال لي". إلاّ أنّ كلامي لن يكون عن الحكيم، ولا عن حماره الفصيح والحكيم وإنّما عن نمط من أنماط الحكم. منذ القدم استخدمت الحيوانات كشخصيّات وأقنعة تمثّل نماذج سياسيّة، وهذا ما انتبه إليه، في أيّ حال، الحكّام. فالحكّام ليسوا على تلك الدرجة من الغباء التي لا تسمح لهم أن يرَوا أنفسهم وطباعهم من وراء جلد الحيوان المستعمل كما عند ايزوب، وابن المقفع، ولافونتين وغيرهم. ويقال إنّ دم ابن المقفّع لم يسفكْ إلاّ بسبب ما تضمّنه كتابه البديع "كليلة ودمنة" من انتقادات لاسعة مبطّنة للنظام السياسيّ القمعيّ في العصر العبّاسيّ. وكانت السلطة القمعيّة تستعين بتهمة الزندقة - وهي تهمة في متناول أفواه خبيثة كثيرة!- وتلصقها بخصومها، فهي من جهة تتخلّص منهم بحجج ماورائيّة، ومن جهة ثانية تسترضي بدمهم المستباح رغبات العامّة والغوغاء. ولا تخلو لغة إنسانيّة من حكايات حيوانيّة، وأغلب النصوص الحيوانيّة هي حيلٌ إنسانيّة – باتت مكشوفة!- في مواجهة القمع، والقمع رذيلة خبيثة لا يؤمن مكرها ولعبها بمشاعر الناس وطبائعهم الفطرية.
كنت أتأمّل، ذات يوم، الجذر الثلاثيّ الذي تتشكّل منه كلمة " قمع" فتبيّن لي أنّ تقليباً من تقليباته الصوتيّة لا يخلو من دلالة عاقر، إنّ تقديماً وتأخيراً بسيطين لبعض أحرف القمع يثمر كلمة جديدة ذات دلالة قاطعة للنسل. فالقمع لا يختلف، عند أدنى تأمّل، بحروفه عن العقم. ألا يولد " العقم" من رحم " القمع"؟ أليس القمع ضرباً من إخصاء ذكور الأمم أو استئصال أرحام النساء؟ أليس القمع اعتداء أحمق وقصير النظر على الطبيعة البشريّة وشلّ قدرتها على الإنجاب والإخصاب؟ شعرت كما لو أنّ العقم هو نتيجة طبيعية وحتمية للقمع. ومن هنا تخّيلت أنّ القمع وممارس القمع من أتباع سنّة الموت لا من أنصار الحياة وسنّتها البهيّة.
الحكاية التي أوردها اليوم كنت قد قرأتها في الجزء الخامس من كتاب "المثنويّ" للصوفيّ الكبير جلال الدين الروميّ، وهو كتاب في التصوّف، والمتصوّف يستعين، أحياناً، بالحكايات لتحقيق مآربه الصوفيّة، كما قد يستعين بالخمرة المجازيّة للتعبير عن نشوته الروحيّة على غرار ما فعل ابن الفارض مثلاً أو غيره من شعراء الوجد الصوفيّ. وحكايات جلال الدين الروميّ البديعة لم تبق أسيرة لغتها الفارسيّة بل تحرّرت من لغتها، وتجوّلت في لغات وأبجديّات كثيرة منها اللغة الإنكليزيّة، ولقد تحوّلت مقتطفات من حكايات كتابه "المثنويّ" إلى كتب رائجة جدّاً، بل إلى ما يشبه الخبز الروحيّ الشهيّ لنفوس كثيرة جائعة في الولايات المتحدة الأمريكية التي لم يعد اسم جلال الدين الروميّ غريباً عن أسماعها.
يحكي لنا جلال الدين الروميّ حكاية شخص خائف مذعور، القلق يتطاير من حركات جسمه ونظرات عينيه، ويتسرّب لون بشرته الرطب من مسامات جلده، وذلك بسبب ما تناهى إلى سمعه من أنّ قراراً خطيراً قد صدر عن السلطات العليا، والقرار الخطير هو مصادرة الحمير لأنّ السلطات محتاجة إلى كمّية كبيرة منها للقيام ببعض الأعمال، والمصادرة ضرب من ضروب التوفير وحسن التدبير من وجهة نظر بعض الأنظمة السياسية. من يتأمّل وجه ذلك الرجل قد يظنّ أنّه من تجّار الحمير الذي سوف تصادَر حميره، ويخسر ما فوقه وما تحته إلاّ أنّه لم يكن من تجّار الحمير، بل لا يملك، أصلاً، حماراً يخاف عليه من المصادرة، وهذا ما يثير الاستغراب من موقفه المذعور من هكذا قرار. كان الرجل حين علم بمصادرة الحمير خارج الدار، ولم تعد قدماه تقويان على حمله من هول ما سمع، ولكنّه كان قريباً من بيت صديق له فهرول اليه وراح يطرق الباب طرقاً عنيفاً تسريعاً في فتح الباب، وحين رآه صديقه على هيأته المذعورة تلك ظنّ أنّ كارثة عائلية فظيعة قد سقطت على رأسه فراح يستفهم عمّا جرى له، فأخبره بما سمع من أنّ الحاكم أصدر قراراً بمصادرة الحمير. فلم يفهم الرجل العلاقة بين الحمير وبين خوف الرجل وشحوب وجهه وارتعاش جسمه. وقال له: وما الداعي لخوفك وأنت لا تملك حماراً ولا ما يحزنون؟ قال له: المشكلة ليست في وجود أو عدم وجود حمار. لم يستوعب الصديق ما يسمع وهو يعرف أن صديقه لن يخسر شيئاً لأنّه ليس من أصحاب الحمير. وما علاقتك بمصادرة الحمير؟ أجاب الصديق بصوت متكسّر لاهث: المشكلة في القوّات المولجة مصادرة الحمير، إنّهم لا يميّزون بين الحمار وصاحب الحمار، وقد يؤخذ صاحب الحمار بدلاً من الحمار، "وليس من العجيب أن يعتبروني حماراً " لأنّ التمييز قد انتفى" بحسب الكلمة الواردة في نصّ جلال الدين الرومي. فالرجل متأكّد من آدميّته ولم يشكّ لحظة واحدة في انتماء جسده الى الطينة الآدميّة. ولكن من يضمن له أنّ مصادري الحمير يعرفون التمييز بين الحمير وغير الحمير، وقد لا يفسح له المجال لإثبات هويّته الآدميّة.
ثمّة حكاية أخرى وردت في كتاب "زهر الآداب وثمر الألباب" للحصريّ مع تعديل في اسم الحيوان. فالحيوان المصادَر، في حكاية الحصريّ، جمل وليس حماراً، ( ألا يوحّد الصبر بينهما؟) وثمّة رجل خاف عند سماعه بخبر مصادرة الجمال ليس لأنّه يعتقد نفسه جملاً أو لأنّ من يقوم بالمصادرة قد يأخذه على أساس أنّه جمل، ولكن لأنّ اسم الشخص من فصيلة الجمل. ونحن نسمع عن التباسات تحصل، وضحايا قد تقع بسبب تشابه الأسماء كما حصل في لبنان إبّان الحرب اللبنانية المسعورة، على سبيل المثال، ولكن أنْ يحصل التباس بين الأسماء والأشياء فهذا ممّا لا يحصل إلاّ في بلاد شديدة البدائية لا تشجّع على الفصل بين الأسماء والأشياء، بل ربّما لا تؤمن باعتباطيّة العلاقة بينهما، وتتعامل مع الاسم على أساس أنّه الشيء، وعليه لا بدّ، على سبيل الحيطة والحذر، من إعادة النظر في أسماء كثيرة خوفاً من مصادرة مباغتة لا تملك "التمييز" بين الأشياء والأسماء.
بلال عبد الهادي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق