الخميس، 9 أبريل 2015

بعض الظنّ... مجزرة



قامت نجلاء فتحي وعزّت العلايلي، منذ ربع قرن تقريباً، بتمثيل فيلم "المجهول"، ويعاد بين وقت وآخر عرض الفيلم على شاشات الفضائيّات، وفيه شيء ممّا أريد الحديث عنه، كما كان الكاتب الفرنسيّ ألبير كامو(Albert Camus) قد ألّف مسرحيّة بعنوان "سوء الفهم" (Le Malentendu)، وهي بدورها تتضمّن شيئاً ممّا أودّ، هنا، عرض  بعض إشكالاته الدامية.

الحكاية مدار الحديث حصلت مع جنرال صينيّ، ولا بدّ من ذكر اسمه، والسبب هو أنّه كاد أن يكون مؤسّس امبراطوريّة جديدة على أنقاض امبراطورية سلالة هان، في منتصف القرن الثالث الميلادي. وهو جنرال جبّار، ذو طموحٍ فاجر إذ ليس كلّ طموحٍ شريفَ النوايا أو نبيل الغايات! والجنرال المشهورة جدّاً سيرته في الصين يدعى " تْسْهَاوْ تْسْهَاوْ" ( 曹操).

عاش هذا الجنرال في أواخر أسْرة هان، أي في لحظة تفكّكها، واستيلاء جنرالات الحروب وأمراء الأقاليم على مقاطعاتها الغنيّة، والتحكّم بمواردها ومصائرها. كان كلّ جنرال يحلم بشيء واحد، لا إنقاذ الامبراطوريّة من الانهيار، وإنّما الاستيلاء عليها والجلوس على عرش الإمبراطور المغلوب على أمره. عاش كلّ الجنرالات حياةً سِجالاً فيها الكرّ والفرّ. منتصر اليوم هو مهزوم الغد، ومهزوم اليوم هو منتصر الغد. فالدهر، هنا، يمارس العدل بمنتهى الخبث، ومن عدالته أنْ لا يكون مخْلصاً مع أيٍّ كان، و"تلك الأيّام نداولها بين الناس"(النساء/104). فيوم لك ويوم عليك، سنّة صارمة، كالموت، لا يفلت من شِباك سلطانها سلطان.
انكسر، في مرحلة البدايات، الجنرال، ولكنه استطاع الفرار، والاختباء عند من كان بمثابة أبيه الروحيّ، خبّأه عنده رغم أنّ عقوبة الإعدام كانت تترصّد من يحميه، ومكافأة، أين منها مكافآت بوش الصغير السخيّة في العراق! بانتظار من يقوم بتسليمه حيّاً أو ميتاً. وصل تْسْهاوْ مهيض الجناح لا العزيمة عند والده الروحيّ، فاحتضنه الوالد، وكان يعرف قيمته العسكريّة، ولكنّ الجنرال وصله بلا موعد، والرجل أراد تكريم ضيفه الذي كان برفقة شخص آخر ساعده على الفرار من السجن. اسـتأذن الرجل تْسْهاوْ تْسْهاوْ بالذَّهاب الى السوق لشراء فاخر المشروب الروحيّ، وتحضير ما يليق بحضوره. ذهب العجوز، ولكن لا بدّ من إكرام ضيفه أيْ لا بدّ من اختيار أجود الموجود ممّا استدعى غيابه أكثر من المتوقّع، خاف تْسْهاوْ تْسْهاوْ. بدأ الفأر، كما يقال، يلعب بعبّه. ظنّ أنّ المكافأة أغرت والده الروحيّ بتسليمه، وبينما كان وصديقه يتكلمّان بما يهجسان به إذ بـ"تْسْهاوْ تْسْهاوْ" يسمع همهمة خارج الدار، همهمة مرعبة النوايا تعكّر هدأة الليل، مجموعة من الأصوات وصله منها عبارة أقلقت ذهنه ورسّخت ظنّه. انقلب الظنّ، في لحظة ماكرة، إلى يقين يوسوس في أذنيه. سمع ما يشبه المشاورات الهامسة، والهمس يثير الشبهات! وتناهى الى سمعه عبارة لا تحتمل التأويل: "سنذبحه الآن" يرافقها صوت شحذ السكين. الحادثة تجري في الليل. والليل ستّار ولكنّه، في الوقت نفسه، غدّار، يلعب بالعين فلا تعرف فيه الخيط الأبيض من الخيط الأسود. لقد فعلها العجوز اللعين، قال تْسْهاوْ تْسْهاوْ، فما كان منه إلاّ أن خرج وصديقَه شاهرَيْن سيفَيْهما وشرعا يقتلان الأشخاص الذين بدَوا في ظلمة الليل كالأشباح. لم يفرّقوا بين رجل أو امراة. وما هي الاّ لحظات ضئيلة حتى خرّ الجميع صرعى. أراد تْسْهاوْ تْسْهاوْ أن يطمئنّ، فالدنيا لا تخلو من المكر والغدر، والحذر منها فريضة. راح هو وصديقه يفتّشان البيت حتى وصلا إلى المطبخ فشاهدا خنزيراً مربوطاً لا يملك العجوز غيره، فعرفا أنّ المقصود بالذبح هو الخنزير. هنا شعر تْسْهاوْ تْسْهاوْ أنّه ارتكب خطأ جسيماً في حقّ أهل وخدَم أبيه الروحيّ، وأنّه سفك، بسبب هذا الظنّ الآثم، دماً بريئاً كثيراً. أنّبهما ضميرهما. قرّر تْسْهاوْ الانصراف. فبأيّ عين يواجه أباه الروحيّ؟ امتطى كلّ واحد منهما حصانه وأسرعا في الذهاب، وما إنْ قطعا مسافة قصيرة حتى لاح العجوز عائداً على حماره، وهو يحمل ما لذّ وطاب من مأكل وشراب. تفاجأ بمغادرتهما المكان. قال له تْسْهاوْ تْسْهاوْ: "لا يمكن لنا البقاء هنا، إنّنا نخاف أن تُجهز علينا أجهزة الأمن التي تطارد تحرّكنا، ومن الأمان تبديل المكان". أصرّ العجوز على بقائهما والمغادرة بعد تناول العشاء. قال العجوز لتْسْهاوْ:" لقد جلبت لك أجود أنواع الخمور، وأمرت خدمي بذبح الخنزير لشوائه". إلاّ أن تْسْهَاوْ اعتذر مجدّداً وأطلق لحصانه العنان .
تابعا طريقهما تاركَين خلفهما العجوز مكسور الخاطر. بعد أن قطع "تْسْهاوْ تْسْهاوْ" مسافة قصيرةِ عنّ بباله شيء قد لا يخطر ببال، فثنى عنان فرسه وعاد باتّجاه العجوز. التفت العجوز إليه مسروراً ظنّا منه أنّه اقتنع بالمبيت عنده! إلاّ أنّ "تْسْهاوْ تْسْهاوْ" خاطب العجوز قائلاً وعلى وجهه تبدو علامات القلق والاستغراب:" من هذا الشخص القادم، من ورائك، إليك، يا والدي؟". ظنّ العجوز أن تْسْهاوْ خاف عليه من أشباح الظلام، فتلفّت العجوز لفحص الشخص الآتي في آخر الليل. كانت التفاتته كفيلة بإعطاء تْسْهاوْ تْسْهاوْ فرصة غادرة لسلّ سيفه، بلمح البصر، وقطع رأس العجوز الذي تدحرج على الأرض. عاد "تْسْهاوْ تْسْهاوْ" وكأنه لم يفعل شيئاً إلى صديقه المذهول ممّا رأت عيناه. كان قتلُ خدم العجوز، طبعاً، سوءَ فهم أو سوء تأويل مريع للمسموع. ولكن ما معنى أن يقطع رأس العجوز؟ صديق تْسْهاوْ تْسْهاوْ لم يستوعب ما حصل، وحين استفسر عن فعلته السوداء، قال تْسْهاوْ:" كان لا بدّ من قتله لإنقاذ حياتي، كان من الممكن حين وصوله إلى البيت، ورؤيته ما حدث أنْ يتبرّأ من أبوّته الروحيّة لي ويجمع أتباعه ويلحق بنا للانتقام، فالدم لا يرحم سافِكيه".
كثيرون، في هذه الحياة، يُقتلون لأنّ جريمتهم التي لا تُحتمل أو تغتفر هي أنّهم أبرياء! أو مخدوعون.
بلال عبد الهادي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق