كان فرانسيس باكون Francis Bacon يقول :"
المعرفة، بحدّ ذاتها، قوّة"، من غير تحديد لنوع المعرفة. والقوّة ثراء، ومع هذا فثمّة
من هم أقوياء إلاّ أنّهم فقراء، وهناك أصحاب معرفة لا شكّ في غناها ومع هذا فهم
فقراء وضعاف، هل هذا يعني أنّ الصواب لم يكن حليف باكون؟ القوة ليست في العضل فقط،
رصاصة ذكية واحدة تلعب بالعضلات لعبة الهرّ بالفأر الصغير. لا أقصد بالمعرفة أن
تكون ممّن يقضون عمرهم في قراءة الكتب، الكتاب قد يلهيك عن الحياة، وأحياناً،
يلغيك. على المرء أن يتعامل مع الكتب بحذر، ويتعامل مع "الورق" بذكاء! وعلى
المرء أن يقوم بتدريب عينيه لتكونا مثل " زوم" الكاميرا، تقرّب الأشياء
وتبعدها، تحذف ما لا تريد ظهوره في الصورة لأنّه لا يخدم المشهد، وتضيف ما تريد
لمآرب فنيّة أو غير فنيّة. فنّ الحذف وفنّ الإطناب ليسا فقط من الفنون البلاغية
وإنّما هما أيضاً من الفنون التجارية والاقتصادية.
درّ الحليب من الضرع الجافّ ليس من الأمور
المستحيلة، وهنا أذكر حواراً بين شخصين، يشكو الأوّل بعد تخرجه من "عدم"
وجود فرص عمل، فما كان من الثاني الاّ أن أجاب قائلاً:" العدم
"فرصة" لخلق فرص عمل. وجهة نظر كلّ من الشخصين حول الوجود والعدم ليست
واحدة، ولهذا لا يعيشان، أغلب الظنّ، مصيراً واحداً.
"خلق
فرص عمل" عبارة مستعملة ومتداولة، وهي تعني أنّ عملاُ ما، في مكان ما، غير
موجود فتقوم بخلق فرص عبر توليد أعمال ومشاريع تكون بمثابة رحم. والفرص كالمعاني،
على قولة الجاحظ، مرميّة في الطريق، والجاحظ ليس خبيراً فقط بالأدب وإنما كان أيضاً
خبيراً بالتجارة، وله تصنيف فيها طريف بعنوان " التبصرة بالتجارة" عن أشكال
التجارة وأنواعها. وهناك أنماط من التجارات لا تخطر ببال، وبما أنّها لا تخطر ببال
فهي كالكنز المدفون الذي لا يعلم بوجوده أحد. وثمّة أناس تخطر ببالهم افكار لا
تخطر ببال غيرهم، ويحاولون الاستفادة من هذه الأفكار عن طريق معرفتهم بأمور تصبّ في
خدمة أفكار بالهم النادر كتلك المرأة الصينية مدار حديث هذا المقال.
نعرف
أنّ الصين أرض الحكمة، ولكنّها، أيضاً، أرض الدهاء. أليس الدهاء، في أيّ حال، من
شروط الحكمة؟ والدهاء الحكيم موجود في كتاب صينيّ صغير الحجم، ولكنّه من اكثر
الكتب تداولاً واستعمالاً في العالم، كتاب يقال إنه ساهم، إلى حدّ كبير، في نجاح
ثورة ماو تسي تونغ في الصين. والكتاب هو "فنّ الحرب" لـ "سْوِنْ تْزِهْ"،
وهو أول وأقدم كتاب في تاريخ البشرية عن فنّ الحرب ( القرن الخامس قبل الميلاد).
الطريف في أمر هذا الكتاب انه خصب إلى حدّ إنّه فرض نفسه على كلّيات إدارة الأعمال
في عقر الولايات المتحدة نفسها.
حكاية المرأة الصينيّة قرأتها في كتاب فرنسيّ بعنوان:
"سون تزه: دروس في الاستراتيجا التطبيقية" (Sun
Tzu: leçons de stratégie appliquée) من تأليف الكاتبة كارين مكريدي
Karen McCreadie، والاستراتيجيا
التطبيقية، هنا، في مجال التجارة والأعمال.
فمن
هي هذه المرأة التي أنشأت امبراطورية مالية جعلتها المرأة الأغنى في العالم؟ هنا،
أحبّ الإشارة إلى حكمة صينية قالها الحكيم الطاويّ "دْجْوانْغْ تْزِهْ"
تقول: "لا يكفي أن تعرف منفعة ما ينفع، بل عليك أن تعرف منفعة ما لا
ينفع". لقد اشتغلت هذه المرأة في "ما لا ينفع"، و"ما لا ينفع"
على المستوى الشخصي لا يعني انه لا ينفع على المستوى العامّ، ويمكن بناء معادلة قد
يراها القارىء سوريالية إلاّ أنّ السوريالية، هنا، هي عين الصواب ومفادها : "إنّ
ما لا ينفع هو بمثابة كنز"! ولقد كان "ما لا ينفع" كنزاً يدرّ
مليارات الدولارات، ولكن كيف؟
كانت
تشونغ يان ) واسمها باللغة الصينية zhang yin Cheung Yanتعمل في شركة ثمّ وجدت نفسها
بين ليلة وضحاها بلا عمل بعد أن أعلنت الشركة إفلاسها. أدركت المرأة، في منتصف
الثمانينيّات، بحنكتها ومعرفتها بحال بلدها أنّ الصين مقبلة على نموّ اقتصادي،
والنموّ الاقتصاديّ في الصين يعني الإنتاج العملاق، والمنتوجات كلّ المنتوجات
كالناس تحتاج إلى لباس، لا تنتقل البضائع عارية، ولباس البضائع ورق وكرتون فقرّرت
المرأة أن تعمل في تجارة كرتون التغليف، وحتّى تستطيع تصنيع الكرتون فهي مضطرة ان
تتعامل مع الأشجار، وهذا يعني ارتكاب جريمة بحقّ الطبيعة وحقّ الأشجار، لقد قرّرت
تشونغ ان تلعب اللعبة البيئية فقرّرت صناعة الكرتون من إعادة تدوير الورق المستعمل أي تحويل القديم الى جديد، وإراحة
أعصاب الاشجار، فراحت تشتري الورق المستعمل بكميات هائلة. هناك أناس لا يعرفون كيف
يتخلّصون من الورق المستعمل، استثمرت تشونغ عبء الآخرين، كانت تشونغ يان تعرف ان
الولايات المتحدة تنتج ، بحكم كونها دولة استهلاكية من الطراز الأوّل، كمّية هائلة
من النفايات الورقيّة، فما كان من تشونغ "إلاّ
أن سافرت إلى أميركا، لشحن الورق الأميركيّ المستعمل الذي كان يعود بعد تدويره إلى أميركا
على شكل كرتون تغليف للبضائع المشتراة من الصين. في الصين أزمة سببها النقص في انتاج
الورق، وفي أميركا ازمة سببها الكمّ الهائل من الورق المستعمل الذي لا قيمة له. ربطت
تشونغ بين الأزمتين وأنتجت من فكرة هذا الربط الولود ثروة جعلت منها المرأة
العصاميّة الأغنى في العالم عن طريق استخراج "النافع" من المهمل، النافع
على المستوى الشخصيّ، والنافع على المستوى العام. ألم تساهم بتجارتها في حماية الغابات
الصينيّة من شراهة المناشير؟
بلال
عبد الهادي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق