حكاية
اللغة العربية مع التاء المربوطة لا تخلو من دلالات ماكرة. لا يمكن لأي شعب أن
يختبىء وراء لغته أو كلماته، لأنها ليست جداراً صفيقاً يستعصي، على النظر، خرقه.
إنّ من يقوم بالاختباء وراء لغته يشبه من يغمض عينيه على أمل أنْ لا يراه أحد، أو
كمن يقوم بالاختباء وراء لوح زجاج شفّاف. كلّ سيرة ذاتية لأية لغة من اللغات هي، في
الوقت نفسه، سيرة شخصية للناطقين بها. هذا ما سمح في أي حال لعلم اللغة الاجتماعي
بأن يكون الجزء الأكثر حيوية من عالم اللغة. في العربية عبارات كثيرة لطيفة التركيب
والدلالة وهي على رباط وثيق بما تكنّه صدور الناس منها: " إذا فتحت فاك عرفناك"
و"ما فيك يظهر على فيك". فالفم، كما ترى، نضّاح و فضّاح.
كيف نظرت
اللغة العربية إلى التاء المربوطة التي نعتبرها على صلة بالمرأة؟ أظهرت العربية
خبثها تجاه النساء في مفردات كثيرة، فالنائب في البرلمان مثلا لا يمكن إلا أن يكون
ذكرا تامّ الذكورة. ولكن ماذا فعلت اللغة مع المرأة المنتخبة الداخلة إلى مجلس
النواب؟ حرمتها من التاء المربوطة إذ لا يليق بالمرأة أن تتحول إلى " نائبة " من
نوائب الدهر في البرلمان لما تحمله الكلمة من دلالة كارثية لا تليق نسبتها إلى
المرأة وحدها في البرلمان. الرجل يخطىء ويصيب في الحياة وكذلك المرأة، ولكن الرجل
إذا كان على صواب فهو "مصيب" أما المرأة فهي "مصيبة"، ولا تخلو ذاكرة "مصيبة" من
"المصائب". والإنسان الذي لم ينتقل بعد إلى رحمة الله نقول انه لا يزال "حيّا"
يرزق، ولكن في حال كانت المرأة على قيد الحياة، يقال أنها لا تزال "حيّة" تسعى في
مناكب الأرض. ولمحض المصادفة، ربّما، ربط الإنسان- والذكر تحديداً- سيرة المرأة
بالـ"حيّة" التي أغوت جدّته حوّاء في الجنان، فكان ما كان. كلمات كثيرة من هذا
النوع جلبت الضرر إلى صورة المرأة بسبب هذه التاء "المربوطة" أو "القصيرة" التي لا
ترحم أحياناً، والتي ليست، فيما يبدو، قصيرة اللسان.
لم ترد
العربية حرمان الرجل من التاء المربوطة، ولعلّه من قبيل الانتقام اللغوي أن ينتهي
اسم رمز القوّة العربية بهذه التاء المربوطة وعنيت عنترة العبسيّ، ولكنّ العربي وجد
من المهانة إلصاق هذه التاء بملامحها الأنثوية الناعمة الملمس في خاتمة اسم البطل
الأسطوري فقام اللسان الشعبيّ بعملية بتر للحرف الأخير من اسم عنترة، ولا أحد يذكر،
اليوم، اسم عنترة بالتاء. فالحرف طار بقدرة ساحر أو ماكر من الاستعمال العاميّ
وتحوّل "عنترة" إلى "عنتر". وإنْ كان عنترة رمزا ناصع البياض للقوّة المتمادية فإنّ
رمز الدهاء في العربية ( وهو معاوية) لا يخلو اسمه أيضاً من هذه التاء. وإذا أردت
تكريم الرجل تكريماً مبالغاً فيه، فانك تلصق في آخر الكلمة التي تصفه هذه التاء
فتقول عن العالم مثلا بأنه علاّمة، والتاء هنا علامة على المبالغة.(أو
الإنجاب)
ثمة
إشكالات كثيرة ومتنوعة للتاء سواء في ظهورها أم في خفائها، فهي قد تحذف من الاسم
الدالّ على المرأة إذا دعت لذلك دواعٍ بيولوجية. اللغة أحيانا لا تحبّ هدر الطاقات
والأصوات، ولذا فهي تعمد إلى الحذف في حال لم يشكل ذلك الحذف أيّ التباس في المعنى.
فما الداعي لأن نقول عن امرأة "حبلى" بأنّها "حاملة" ما دام الرجل غير مهيّأ،
بيولوجياً، لحمْل الجنين في بطنه؟ فتتقبل اللغة هنا استعمال كلمة "حامل" من دون
امتعاض. لأنّ الحمل يعني حكماً، هنا، المرأة حتى ولو تمّ استئصال هذه الزائدة
الصوتية والتي هي علامة التأنيث. التأنيث المعنوي يستغني عن خدمات التأنيث اللفظي.
ويباح استعمال "حاملة" إذا كانت المرأة تحمل شيئاً خارج رحمها. ومن الطريف أن تسمى
حبات الحمص الخضراء أيضاً "حاملة" في اللهجة الطرابلسية، على الأقلّ، مع أنه ليس
هناك علاقة مباشرة، فيما أظنّ، بين المرأة وحبّات الحمّص الخضراء. ما ينطبق على
"حامل" ينطبق أيضاً على "مرضع". البيولوجيا هي التي سمحت بحذف التاء أيضاً من "
كاعب" و" ناهد" ومفردات أخرى.
ولكن ما
حال اسم "فاتن" ودلالاته؟ كثيرات يحملن هذا الاسم من غير تاء مربوطة، أي أنّ هذا
الاسمَ موجودٌ في شَكْلَيْه: " فاتن" و"فاتنة". ألا تضمر صيغة " فاتن" اعتقاداً لا
واعياً بأن الفتنة، على طراز الحمْل، هي من نصيب المرأة بيولوجيّا؟
وعلى هذا
الأساس سحبت الفتنة من الذكورة، وكأن الذكورة لا تعرف الفتنة، فلا يجرؤ أحد على منح
ولي عهده اسم "فاتن" مخافة أن يتهم بالتخنث. لعلّ العربيّ أراد تأكيد فكرة سارية
المفعول وهي أنّ "المرأة فتنة" فسحب وجوده من عالم الفتنة والغواية وخصّ بها
المرأة. المرأة ربما وافقت على ذلك، لأنها هنا تأخذ زمام المبادرة وتلعب دور
الفاعل، أما الرجل برّأ نفسه وساحته، هنا، من فعل الفتنة واكتفى بدور الضحية أي
بدور المسلوب والمفتون، الذي يقع عليه، غصباً عنه، فعل الفتنة الناعمة
والغاوية!
ألا
تنحاز اللغة، وهي المنتهية على شاكلة الفتنة بالتاء المربوطة، بشكل لا يقبل
المواربة إلى جانب الرجل المفتون المغلوب على أمره؟
من كتاب " لعنة بابل" تأليف بلال عبد الهادي
من كتاب " لعنة بابل" تأليف بلال عبد الهادي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق