عبارات كثيرة يقولها الإنسان ولا يدرك دلالاتها المضمرة أو تأثيرها على بنية الحياة نفسها، وعبارة "مع أنو شاطر " واحدة من تلك التي يستعملها الناس إزاء طالب شاطر في مدرسته، ولا مشاكل سلوكية تبلبل حياته، ولكنّه اختار تخصّصاً لا يليق بشطارته. لنفترض مثلا أنّ أحد الطلاب أنهى مرحلته التعليمية في المدرسة بنجاح ملحوظ، وقرّر أن يلتحق باختصاص ينتمي إلى العلوم الإنسانية ( وهذا الافتراض ليس سرياليّا)، كأن يختار فرع الأدب العربيّ مثلا أو علم النفس أو التاريخ أو العلوم الاجتماعية يكون ردّ الفعل الفوري والعفويّ ( والعفويّة ثرثارة) ومن قبل الأهل قبل غيرهم أيضا رفض هذا الاختيار أو التذمر منه والعمل على إقناع التلميذ بالعدول عن هذا الاختيار الخائب، لأنّه شاطر كان بمقدوره أن يختار اختصاصاً آخر كأنْ يتابع رحلته العلميّة في مجال الطبّ أو في أحد فروع الهندسة. وهنا تخرج من لسان سامع كلام التلميذ عبارة " لماذا اخترت هذا الفرع مع انك شاطر؟" ولا يقولها السامع اغلب الأحيان إلاّ من باب المحبّة، لأنّه يتمنى لهذا الشاطر مستقبلا زاهراً، ولكن لا بدّ من التذكير بالمثل الصادق "ومن الحبّ ما قتل"، ولا حصر لمن كانوا ضحايا محبة الأهل.
إلاّ أنّ
قائل عبارة "مع انو شاطر" لا ينتبه إلى ما يقول، أو كأنّ العادة الكلامية في
المجتمع سبقت تفكيره وجرّته إلى أن ينزلق إلى تعبير لا تبشّر مضامينه الخفيّة
واللاواعية بخير إطلاقاً. وهو تعبير، في العمق، غير صحّي، لأنه يعني من جملة ما
يعني أن ثمة اختصاصات للشاطرين وأخرى للكسلانين، وان ثمة تمييزاً عنصرياً أرعنَ بين
العلوم متوارياً في طيّات العبارة، ويظهر التعبير أنّ ثمة قنوات أيضاً مقطوعة بين
العلوم على عكس شكل العلوم السائد اليوم في الدول المتقدمة وهو التخصّص العابر أو
الحاضن للتخصصات. ويراودني سؤال: كيف يكون شكل المجتمع إذا اخذ زمام أمره أناس
كسالى؟ ماذا يعني أن يختار كسول فرع الأدب العربي على سبيل المثال؟ وعبارة "اختار
الأدب العربي" هنا ليست دقيقة جدا لأن الكسول لم يختر الفرع بإرادته وإنما بسبب
كسله وتدنّي علاماته في الموادّ العلمية المحض. وماذا يعني أن يختار طالب كسول أيضا
فرع التاريخ مثلا، ثمّ يحصل، فيما بعد، شَحْطاً، على إجازة تعليمية تخوله الدخول
إلى نعيم التعليم أو جحيمه؟ وأترك للقارىء مهمة تحديد هوية التعليم! من يكون
المسؤول عن هذه الجريمة؟ وهي جريمة ضدّ الطلاب بكل المعايير الأخلاقية والعلميّة
والوطنية، لأنّ هذا "المؤرّخ الواعد!" سوف يدخل إلى حرم التعليم وسوف يغدق من
معلوماته الناقصة أو المشوّهة على الطلاب. ألا تكون صورة تاريخ الدنيا في ذهن
التلميذ الذي يصغي إلى هذا الأستاذ مشوّشة المعالم على شاكلة ما يعرف
الأستاذ.
إذا قرّر
أحد الطلاب اختيار فرع علم النفس مثلاً وهو شاطر نعتبره ضيّع عمره وقضى على
مستقبله، هذا إن لم نر في اختياره "عرق جنون" ضرب ملكاته الفكريّة، وكأننا نعيش في
بلد لا يسكنه إلاّ العقلاء والأسوياء ولا يحتاج إلى علماء نفس مهرة يعالجون هذا
الانفصام الشخصيّ المرير في جزء غير يسير من ممارسات حياتنا اليومية ومفاهيمنا
الضبابية، الملوّثة التي لم تعرف إلى اليوم أن تبني وطناً لا يطحن عظام بنيه أو
يبدّد شملهم في هجير المغتربات، وكأنّ بلادنا "سمنة على عسل" تعيش بلا خضّات
اجتماعية أو قهر اجتماعيّ فاقع الحضور، وعليه فهي لا تحتاج إلى علماء اجتماع شطّار
ومهرة يقدمون الحلول الصحية والعلميّة لإبراء البلد من مرضه الطائفيّ الذي لا يختلف
كثيراً عن المرض الخبيث.
ولكن
لأننا لا نعيش في نعيم مقيم ( وأبواب السفارات المحتشدة بالراغبين قسراً في الغربة
تشهد على ذلك) نحتاج إلى شطّار يختارون الفروع الإنسانية، على ما يحيط بها من ظلم
واستخفاف، وليس إلى طلاب انغلقت كلّ أبواب العلوم الأخرى أمامهم ولم يبق لهم إلا
باب العلوم الإنسانية، لأنه باب متأثر ربما بصفته الإنسانيّة فيستقبل كلّ ما هبّ
وما دبّ.
لا بدّ في
ما أظن من إعادة تصنيف العلوم والنظر إليها بعيني نسر بدل النظر إليها بنصف عين حتى
لا تكون شهاداتنا العلميّة أشبه بشهداء الزور أو شواهد القبور، وحتى لا يكون من
يتفوّه بعبارة" لَشُو العلم؟" على صواب فتّاك!
إن العالم
بلا علوم إنسانية لا يكون عالماً إنسانياً، لأنّه ليس بالتكنولوجيا وحدها (على
ضرورتها القصوى) يحيا الإنسان السويّ المتصالح مع نفسه ومع بني جنسه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق