كِسْرَةُ خُبْزٍ يابِسٍ من بيت فريد الدين العطّار
كتبهابلال عبد الهادي ، في 22 تشرين الثاني 2010 الساعة: 13:46 م
يقف
القارئ، في كتب التصوّف، على حكايات طريفة، فالصوفيّ كان ولوعاً بالحكايات التي لا
تخلو من النكْهة الغرائبية الصادمة للعقول، يستعين بها على تيسير شؤون تقواه
ودنياه، ويتبرّك بدلالاتها الخفيّة العطرة. وللحكايات وظائف كثيرة لا تصبّ كلّها في
خانة التسلية في أوقات الفراغ، فبعض الحكايات تشبه حبّات السُّبْحة بين أصابع ناسك
متعبّد تساعد على الاستغراق في التأمّل. وفريد الدين العطّار أحد هؤلاء المتصوّفة
الكبار الذي كان ولوعاً بحياكة الحكايات المأخوذة ليس فقط من أفواه الآدميّين
وإنّما أيضاً من مناقير العصافير كما في كتابه البديع " منطق الطير" الذي عرف أهْل
الاستشراق غناه الروحيّ وتجلّياته الصوفيّة العفيّة وكناياته بعيدة المرامي فنقلوه
إلى لغاتهم، بل ونشروه- ولهذا دلالة واضحة- في طبعات شعبيّة زهيدة الثمن وكأنّه من
كلاسيكيّات الأدب الغربيّ التي لا يفترض أن تحرم منها عينٌ قارئة نَهوم، ولقد اعترف
متصوّف آخر، لطيف التصانيف، وذو شأنٍ في عالم التصوّف والحكايات، بقيمة ما كتبه
فريد الدين العطّار عن الطّواف في مدن العشق الصوفيّ وهو جلال الدين الروميّ الذي
قال:
طوّف العطّار مدن العشْق السبعة
ولا نزال في منعطف جادّة واحدة.
كنت اقرأ
في كتاب "تذكرة الأولياء" للعطّار وهو أشبه بمعجم يتضمّن سير بعض أعلام أهل
التصوّف، يقارب عددهم المائة، يسرد مقاطع من حياتهم وشذرات من أخبارهم وبعض نوادرهم
الدالّة على تطوافهم الروحيّ. فاستوقفتني حكاية رواها العطّار عن متصوّف اسمه "شاه
الكَرْماني". قال العطّار إنّ هذا الصوفيّ "ما نام أربعين سنة، وكان يكتحل بالملْح
حتى صارت عيناه كَقَدَحَيْنِ من الدّم!" خوفاً من أنْ يسرق منه النوم لحظةَ يقظةٍ
لا يقضيها في مناجاة الخالق. وكان الكرمانيّ يعتبر من علامات الإيمان واليقين
بالخالق " أنْ يسقط الخلق عن عينك حتى لا تبالي بمدحهم وذمّهم، ويكون كلاهما عندك
على السويّة، فإنّك لا تفضل بالمدح ولا تنقص بالذمّ". ويذكر العطّار مجموعة من
أقاويل الكرمانيّ الحكميّة منها:" لصاحب الفضلِ فضلٌ على غيره ما لم يرَ فضلَ
نفسِه، فإذا رأى فضلَ نفسِه لم يبقَ له فضلٌ على غيره، بل يتواضع
حينئذ".
وكان
للكرمانيّ على ما يقول فريد الدين العطّار ابنة في العشرين من عمرها فأراد أن
يخطبها أحد أبناء الملوك، فخاف على ابنته من مفاتن دنيا الملوك، فاستمهل ثلاثة
أيّام وكان يدور في المساجد، ويفتّش عن أحوال الناس، حتى رأى فقيراً يصلّي، فرضي
بصلاته، ووقف إلى تمام صلاته، ثمّ سأل عن أهله، فقال الفقير: ليس لي أهل. قال
الكرماني: هل ترى أن تتزوّج بامرأة قارئة؟ فقال الفقير: من يزوّجني في مثل هذه؟
ومالي من الدنيا إلاّ ثلاثة دراهم؟ فقال: أنا أزوّجك مع هذه الدراهم الثلاثة، اشترِ
بأحدها الخبز، وبالآخر اللحم، وبالثالث العطْر( ذكر العطر طريف الدلالة، في هذا
المقام، من فم "العطّار" الذي يعرف الدور الذي تؤدّيه العطور في طقوس الزهد ومناسك
التعبّد). ففعل الفقير، وعقدوا النكاح، وبعث البنت إليه في الليل، فلمّا دخلت البنت
بيت الزوج الفقير رأت هناك خبْزاً يابساً على كوز فيه ماء، قالت مستغربةً: ما هذا
الخبز؟ فقال الفقير: فضلٌ من أكلي البارحة، وأنا أبقيته لهذه الليلة، فقصدت البنت
باب الخروج وفي نيّتها أن تفسخ عقد الزواج، قال الفقير: كنت أعلم أنّ بنت الكرمانيّ
لا تقوى على مصاحبتي، وكيف ترضى بي وبما لي من الفقر؟ قالت البنت: يا فتى، أنا لا
أخرج بسبب الفقر، ولكن لقلّة اليقين، وضعف الإيمان، فإنّك كيف أبقيت خبزاً من الأمس
إلى اليوم، ولم تعتمد على الرزّاق؟ ولكن أتعجّب من أبي، فإنه ربّاني عشرين سنة،
وقال: أزوّجها من زاهد، فزوّجني من لا اعتماد له على الله. فقال الفقير: وهل لهذا
عذر؟ قالت : نعم، إمّا أن أكون في هذا البيت أو هذا الخبز اليابس. ولم يكن أمام
الفقير من خيارإلاّ التخلّي عن الخبز
اليابس!
تذكّرني
حكاية ابنة الكرماني بحكاية كنت قد سمعتها خلال إقامتي في باريس عن امرأة فرنسيّة
قرّرت الدخول في دين الله الحنيف فأسلمت ثم ذهبت إلى إمام جامع باريس ليساعدها في
إيجاد فتى مسلم ورع السلوك ليكون شريك حياتِها على سنّة الله ورسوله، فاختار لها
فتى من المصلّين معروفاً بالتقى والصلاح، ولكن ما هي إلاّ أيّام حتى عادتْ إلى
الإمام، وفي وجهها علامات الغضب والانكسار، طالبة فسخ عقد الزواج لأنّ الإمام غشّها
من حيث لا يدري- ومن لا يغـ(يـّ)رّه الشَّكْل؟- في هذا الزوج الذي راح يرغّبها في
عدم دفع ما يتوجّب على ممتلكاتها من زكاة، وهي لا تريد، بعد أن غيّر الإيمان مصير
دنياها، أن يلعب أحدٌ، حتّى ولو كان زوجها، بمصير آخرتها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق