ماركو بولو كان من أوائل الغربيين الذين
رحلوا إلى الصين واكتشفوا حضارتها المترفة، حين عاد إلى بلاده راح يروي ما رأى،
ولكن ما رواه لم يصدّق أغلبه أحد فاعتبره الناس كذاباً، وحمل لقب "صاحب
المليون كذبة". لم يصدقوه لأنه تكلم عن عادات وتقاليد لم يألفها الغربيّ، أي
ليس ضروريّاً أن تكون كذّابا حتى تتهم بالكذبّ. كان ماركو بولو يسمع، في طفولته،
حكايات كثيرة عن الحصان وحيد القرن، ولم يكن الغرب يعتبر وجود هذا الحيوان كائنا
نابتا من خيال الناس ورغباتهم، وعدم رؤيته في القارة الأوروبية لم يمنع الغربيين
من الاعتراف بوجوده الفعلي في مكان آخر تحت الشمس. في ذهن كل إنسان حيوانات حقيقية
لم يرها، طبعاً، من قبل، وحيوانات خرافية لم يرها، طبعاً، من قبل. فكم عدد الأطفال
الذين لم يروا الفيل أو الأسد أو الزرافة على امتداد طفولتهم في لبنان مثلا؟ ولكن
عدم رؤيتها لا يعني عدم تصورها، وخصوصا بوجود التلفزيون الذي يفتح لك نافذة تطلّ
على الأدغال. ولكن التلفزيون لا يحل المشكلة في الأذهان ولا سيّما في هذا الزمن،
بل قد يزيدها عتوّا. ما الفرق بين الديناصور والفيل مثلا في ذهن من لم ير الفيل
ولا الديناصور إلاّ على الشاشة الفضيّة أو البيضاء؟ ألا تسقط الفواصل بين الكائن
الافتراضي والكائن الحقيقي؟ وكيف يميز الطفل بين "فيلم وثائقي"
و"فيلم خيالي" ما دامت الحدود الفاصلة لم تعد ذات نفوذ غير قابل للخرق؟
حين يقول طفل: " انه يحب آي تي (E.T)"
الكائن الخرافيّ الآتي من وراء الضباب لا يحكي عنه على أساس انه كائن خرافي وإنما
على أساس انه كائن كغيره من الكائنات الموجودة والتي لم يسبق له أن رآه شخصياً أي
أن العلاقة التي يبنيها مع هذا الكائن ليست مغايرة كثيرا عن علاقته مع أي حيوان
حقيقي لم تره عيناه.
لقد اتهم ماركو بولو بالكذب ليس لأنه
كان كذّاباً على طراز "خَلَف الأحمر" ولكن لأنّه أخطأ حين رأى العالم
بعيني ثقافته الأوروبية، وحاول تفسير ما يرى على ضوء هذه الخلفية القاصرة
والمحدودة.
كانت طفولة ماركو كطفولة غيره من
الأوروبيين مملوءة بالحكايات عن الحصان الأبيض الرشيق وحيد القرن، وبما أنه لم
يعثر على هذا الحيوان في الغرب فإنّ الأقاصيص الغربية والثقافة الغربية آمنت
بوجوده خارج الحدود الأوروبية، والإنسان يؤمن بثقافته، أحياناً،
أيماناً أعمى يغتال الأسئلة. من جملة الرغاب التي حملها معه ماركو بولو في رحلته
إلى الصين البحث عن الحصان الوحيد القرن. وهو حين راح يبحث عن الحصان لم يكن في
ظنه على الإطلاق انه يبحث عن كائن أنبتته مخيّلة الثقافة الغربية.
حين توقف في جزيرة "جافا"
وقعت عيناه على "وحيد القرن"، وبما انه لا يعرف أن ثمة حيوانا آخر غير الحصان يحمل هذا القرن لم يدر
في خلده أن ما يراه ليس الحصان الأقرن. شعر بفرح لأنه رأى ما سمعه في الأقاصيص،
ولكن شعر أيضاً بصدمة ممضّة لأن الحصان الذي أمام عينيه التهم صورة الحصان الذي في
ذهنه. أن الحصان وحيد القرن لونته الحكايات الغربية باللون الأبيض أما الذي بين
عينيه فهو أسود، لم ير رشاقة الحصان أمام عينيه ولكنه رأى كائناً متثاقل الخطو
دميم المنظر رأسه كان أقرب، في نظره، إلى رأس الخنزير البري.
اعتقد ماركو بولو إنّ ما قالته له الكتب
والحكايات ليس دقيقاً تماماً. نعم، ثمّة حصان وحيد القرن أمام عينيه ولكنه مغاير
للصورة البيضاء التي في ذهنه فشعر أنّ من واجبه توضيح صورة الحصان في أذهان
الأوروبيين كما اتضحت في ذهنه ولو على حساب الحكايات، وهذا ما قرر عمله لدى عودته
إلى أوروبا. لم يخطر ببال ماركو إن ما رآه هو كائن آخر لا علاقة له بالصورة التي
في ذهنه، كل ما خطر بباله أن الحصان وحيد القرن يحمل صورة مشوشة في ذهن أقرانه من
الأوروبيين لا تتطابق تماماً وواقع الحال.لم يصدقه أحد حين أعلن أن الحصان الوحيد
القرن ليس بالجمال الذي تصوّره الحكايات بل لقد ندّد السامعون به وبأقواله
واعتبروا قوله من قبيل الأكاذيب التي حملها معه لزعزعة حكاياتهم.
ولكن ماركو بولو لم يكن كذاباً،
والإنسان يعرف أن ثمة حقائق تبدو، لفرط غرابتها، كالكذب أو كالخرافات، بل كان يحكي
بمنتهى الصدق من منطلق ما قالته له ثقافته الغربية عن الحصان وحيد القرن.
يعلق إمبرتو إيكو Umberto Eco على حكاية ماركو بولو مع الحصان بأنه كان "ضحية
لمَراجعه"، أي لثقافته الغربية المكتوبة والمحكية. الجدير بالذكر أنّ إمبرتو
إيكو ذكر هذه الحكاية في بحث له طريف عن "صراع الحضارات".
وهل "مناطحة" الحضارات غير قراءة
مخطئة لـوجود " قرن الحصان الأبيض"؟.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق