السبت، 4 أبريل 2015

الفخّ والصيّاد



ليس كلّ من يسدي إليك معروفاً يسدي، عمليّاً، إليك معروفاً، فالأمور بخواتيمها، والعبرة بالغايات والنهايات. الغايات هي التي تكشف لك قناع المعنى عن السلوك والأقوال. ليس كلّ دمعة، على سبيل المثال، مبعثها الحزن أو مصدرها الفرح، فقد يكون منبعها الشماتة، وقد تكون فخّاً سيّالاً! وفي الأمثال الشعبيّة تعابير وأقاويل كثيرة تشير إلى احتمال أن لا يكون ما تراه هو ما تراه، منها:" ضَرَبْني وبكى..." بمعنى أن الضارب، هنا، قام بعملية سطو، أيضاً، على دموع المضروب! أو "يقتل القتيل ويمشي في جنازته" ممّا يعني أنّ ليس كلّ ماشٍ في جنازةِ مقتولٍ بريئاً براءة الذئب من دم ابن يعقوب، أو "تَمَسْكَنَ حتّى تمكّن" أو " لبِّس العود بجود" أو محْو الحدود بين الخسيس والنفيس كما يظهر المثل التالي "لبّس المكنسي بِتْصير ستّ النِّسِي" أي تصير المِكْنسة سيّدة النساء! والأمر طريف جدّاً فقد يجد رجل ما ( عقله على قدّه)  في قوام مكنسة لابسة امرأةً ممشوقةَ القَوام! بناء لما يقوله المثل. هكذا هي الدنيا، صورة يرسمها ضبابٌ داكنٌ، لعوب! لا أنوي في هذا المقال استقصاء كلّ الأقوال والأمثال، وإنْ كان مستقصيها يصطاد، في آخر المطاف، معجماً غنيّاً شديد الفرادة يختزل حالة من حالات المجتمع. فالأمثال الشعبيّة صور وعِبَرٌ أشبه ما تكون بخطّ بيانيّ بليغٍ عن المجتمع بكلّ ألوانه وأطيافه.

كلامي مقدّمة عن حكايتين قصيرتين من أخبار العصافير، وأنا أعرف أنّ مناقير العصافير تحكي حكايات تحسدها عليها شهرذاد، حكايات تغيّر أحياناً من مجرى التاريخ والأحداث. قد يجد البعض في كلامي مبالغة، أو شططاً، أو ضرباً من الضَّحِك على الذُّقون والعقول، ولكنّي أحيله إلى كتاب علميّ رصين "علم الأصوات الحيويّة، عمّ تتكلّم الحيوانات" الذي كتبته العالمة في السلوك الحيوانيّ ل. ستيشكوفسكايا ( دار علاء الدين- دمشق)، كما أحيله إلى منقار الهدهد القرآنيّ الذي تحدّث مع النبيّ سليمان، وكان- أي الهدهد- أشبه برجل مخابرات خبير يعرف كيف يأتي بالنبأ اليقين على ما ورد في القرآن الكريم، وكان النبيّ سليمان ضليعاً في لغة الطير كما قال سبحانه وتعالى:" وَوَرِثَ سليمانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنطِقَ الطَّيرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيءٍ، إِنَّ هَذَا لَهُوَ الفضْلُ المبين (سورة النمل: 16). ومع هذا تظهر لنا آية أخرى أنّ الهدهد يعرف ما لا يعرفه النبيّ سليمان نفسه بحسب ما نطق به منقار الهدهد " فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِين" (سورة النمل:22). ومن أهمّ كتب أهل التصوّف كتاب يحمل عنوان "منطق الطير" لفريد الدين العطّار، والعطّار استعار ألسنة الطير ليعلّق على أحداث وقته.

ولكنّ الحكايتين اللتين أتناولهما هما من كتاب أشبه بنزهة في روضة على ما يوحي عنوانه، ولا يخلو روض من طير! وهو "روضة العقلاء ونزهة الفضلاء"(مؤسسة الريّان - بيروت) للإمام الحافظ أبي حاتم محمّد بن حبّان البُسْتِيّ (تـ.354هـ.) . ويروي الإمام في مقدّمة كتابه الأسباب التي دفعته إلى تأليفه فيقول:" أمّا بعد، فإنّ الزمان قد تبيّن للعاقل تغيّره، ولاح للّبيب تبدّله، حيث يبِس ضَرْعُه بعد الغزارة، وذبل فرعه بعد النضارة، ونَحِلَ عوده بعد الرطوبة، وبشِع مذاقه بعد العذوبة، فنبع فيه أقوام يدّعون التمكّن من العقل باستعمال ضدّ ما يوجب العقل من شهوات صدورهم، وترك ما يوجبه نفس العقل بهَجَسات قلوبهم. جعلوا أساس العقل الذي يعقدون عليه عند المعضلات: النفاق والمداهنة، وفروعه عند ورود النائبات حسن اللباس والفصاحة، وزعموا أنّ من أحكم هذه الأشياء الأربع فهو العاقل الذي يجب الاقتداء به، ومن تخلّف عن إحكامها فهو الأَنْوَكُ- أي الأحمق- الذي يجب الازْوِرارُ عنه. فلمّا رأيت الرَّعاع من العالم يغترّون بأفعالهم، والهمج من الناس يقتدون بأمثالهم، دعاني ذلك إلى تصنيف كتاب خفيف، يشتمل متضمّنه على معنى لطيف، مما يحتاج اليه العقلاء في أيّامهم، من معرفة الأحوال في أوقاتهم..." متأمّل هذه المقدّمة يلحظ كثرة الأسماء والأفعال التي استعملها الكاتب وكلّها تشير الى التلوّن والتحوّل من قبيل "نفاق"، "مداهنة"، "تبدّل"، "تغيّر"، "يبس"، "ذبل"... إلخ. وقراءة الحكايتين على ضوء مقدّمة ابن حبّان يكسبهما معنى مفتوح الأبواب على الأزمان الغابر منها والحاضر.

 الحكاية الأولى تحكي عن صيّاد كان يصطاد العصافير في يومِ ريحٍ، فجعلت الرياح تُدخل في عينيه الغبار فتذرفان، فكلّما صاد عصفوراً كسر جناحه وألقاه في ناموسه. فقال عصفور لصاحبه: ما أرقّه علينا! ألا ترى إلى دموع عينيه؟ فقال له الآخر: لا تنظر الى دموع عينيه، ولكن انظر إلى عمل يديه.

الحكاية الثانية يستهلّها ابن حبّان السُّبْتيّ بمطلعٍ يختصر ما ورد في مقدّمته:" فأمّا اليوم، فأكثر أحوال الناس تكون ظواهرُها بخلاف بواطنِها". وهي حكاية عن عصفور ساذج يتحاور مع فخٍّ مخادع، ذي وجهين ولسانين، والفخّ في كتاب ابن حبّان ناطق، يمتلك تقنيات التعبير البليغ، ويحفظ مفردات التقى والزهد والورع. استغرب بعض من سمع الحكاية أن يكون للفخّ – وهو آلة بكماء- لسان! تقول الحكاية:"  تكلّم عصفور مع فخّ، فقال العصفور: انحناؤك لماذا؟ - الطريف أن أسماء الاستفهام في لغة العصافير ليس لها، دائماً، حقّ الصدارة!- قال: من العبادة. قال: دَفْنُك في التراب لماذا؟ قال: من التواضع. قال: فما هذا الشَّعَر؟ قال: هذا لباسي. قال: ما هذا الطَّعام؟ قال: هذا أعددته لعابر السبيل. قال: فتأذن لي فيه؟ قال: نعم. فنقر العصفور نَقْرة فأُخِذ بعنقه، فجعل العصفور يقول: شَغْ شَغْ شَغْ- وهو ضرب من الهدير بلغة العصافير- وقال: والله لا يغرّني قارئ بعدك أبداً"، ولكن بعد أن ضحك عليه الفخّ الماكر كالثعلب ضحكةً دقّت عنقه وساعة أجله.

 والحكاية الأخيرة تبرّر قولاً مأثوراً عن ابن السمّاك ( تـ. 344 هـ.)، وهو أحد كبار الزهّاد في زمن هارون الرشيد "لا تخفْ ممّن تحذر، ولكن احذرْ ممّن تأْمن!".

بلال عبد الهادي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق