السبت، 4 أبريل 2015

لا مفرّ من الاعتراف / من حكايات ابن الجوزي

لا تخلو الدنيا من مواقف وطرائف (حتى ولو كانت دامية) وليدة قراءة خاطئة لمشهد، او نتيجة حكم عجول او ثقة بالنظرة الأولى. وللعرب تعبير مأثور يقول: «النظرة الأولى حمقاء». وكثيراً ما يعتمد المرء على النظرة الأولى في إطلاق أحكامه على الأمور، ثم سرعان ما يكتشف (وقد لا يكتشف!) أنه من الخطأ مَحْضُ النظرة الأولى ثقة عمياء! لأنها قد تجعل الظالم مظلوماً، والموجود معدوماً. هذا ما يشكّل جوهر حكاية غريبة التفاصيل قرأتها في كتاب «الفراسة» لابن قيّم الجوزيّة (691هـ - 751م) «سيّد الحفّاظ، وفارس المعاني والألفاظ» بحسب ما قيل عنه. والحكاية تتناول إمكانية ان يتحوّل شخص ما أحياناً بملء إرادته ووعيه من شاهد على مشهد الى صانع له، ليس لأنه اقتنع ان يكون شريكاً فاعلاً في صياغة المشهد او لأنه شك بنفسه فانزلق، عن غير علم منه، الى تبنّي المشهد، وإنما لأن كل ما يحيط به من مؤشرات ودلائل وقرائن مرئية تُبطل بالكامل إمكانية ان يصدّق من يراه بأنه مجرد شاهد عابر لا يعرف شيئاً عن المشهد.
حصلت الحكاية، على ما يقول ابن قيّم الجوزية، مع الإمام عليّ في زمن خلافته. وكاد الإمام ان ينخدع بأقاويل من يعترف بجريمة لم يرتكبها لأن المعترف وجد ان لا مفر من الاعتراف، والجريمة «لابِسْتو من فوق لتحت» كما يقال. استوقفني في الحادثة، على ما فيها من تفاصيل قانية، فكرة خداع المشهد. العين تجور أحياناً، ولكن العتب في الحكاية ليس على النظر، بحسب التعبير الشائع، وإنما على حكم النظر الذي لا يعرف فضيلة الحذر. وهذا مدار كتاب ابن قيّم الجوزية حيث تكثر في تضاعيفه الحكايات الواقعية التي تُظهر فيها ظواهر البيّنات والأحوال والأمارات والعلامات عجزها، أحياناً، عن البتّ الصائب في الأمور. فالظاهر مناور، مداور، مُراء، يريك الشيء على الصورة التي يريد. من هنا يلحّ ابن قيّم على أخذ الحيطة من تلبيس الظاهر المراوغ.
ما مصير شخص لم يرتكب جريمة ولكنه اعترف بارتكابها - والاعتراف سيّد الأدلّة - لأن كل الملابسات المرئية التي لا تنكرها العين تشير الى أنه مرتكب الجريمة، وهو مقتنع رغم كونه بريئاً بأنه من المستحيل ان يصدّق براءته أحد حتى ولو «بلع المصحف»؟ فمن رآه ظنّ ظناً قاطعاً لا يخالطه أيّ لُبْس بأنه قُبض عليه بالجرم المشهود. وما مصير الشخص الذي ارتكب الجريمة ولم يعترف بها إلاّ بعد ان اعترف بها من لم يرتكبها؟ هل يظل في عُرْف العقاب قاتلاً؟! وهل يقتصّ منه؟ لا ريب في ان بعض الأسئلة تشوّش الذهن، ولكن حياة الناس تعبرها أحداث مشابهة، إذ ان سيناريوهات المصائر الانسانية لا تختلف أحياناً عن شباك الصيّادين! وكثيراً ما يقف المرء مستسلماً، مستخدماً عبارة شائعة تظهر ارتباكه وعجزه فيقول: «شي ما بفوت بالعقل!».
والآن الى تفاصيل الحكاية بلسان ابن قيّم الجوزية «أُتيَ برجل الى الإمام عليّ وُجد في خِرْبة بيده سكّين متلطّخ بدم، وبين يديه قتيل يتشحّط في دمه. فسأله، فقال: أنا قتلته. قال: اذهبوا به فاقتلوه. فلما ذهبوا به أقبل رجل مسرعاً. فقال: يا قوم، لا تعجلوا. ردّوه الى عليّ. فردّوه. فقال الرجل: يا أمير المؤمنين ما هذا صاحبه. أنا قتلته. فقال عليَّ للأول: ما حملك على أن قلت أنا قتلته ولم تقتله؟ قال: يا أمير المؤمنين وما أستطيع ان أصنع وقد وقف العسَسَ على الرجل يتشحّط في دمه، وأنا واقف وفي يدي سكّين، وفيها أثر الدم، وقد أُخذت في خِرْبة، فخفت ان لا يقبل منّي، وأن يكون قسامة، فاعترفت بما لم أصنع، واحتسبت نفسي عند الله. فقال عليّ: بئس ما صنعت، فكيف كان حديثك؟ قال: إني رجل قصّاب، خرجت الى حانوتي في الغَلَس، فذبحت بقرة وسلختها فبينما أنا أسلخها والسكّين في يدي أخذني البول، فأتيت خِرْبة كانت بقربي فدخلتها، فقضيت حاجتي، وعدت أريد حانوتي، فإذا أنا بهذا المقتول يتشحّط في دمه. فراعني أمره فوقفت أنظر اليه والسكين في يدي. فلم أشعر إلاّ بأصحابك قد وقفوا عليّ، فأخذوني. فقال الناس: هذا قتل هذا، ما له قاتل سواه. فأيقنت أنك لا تترك قولهم لقولي، فاعترفت بما لم أجْنِهِ. فقال عليّ للمُقرّ الثاني: وأنت، كيف كانت قصّتك؟ فقال: أغواني إبليس فقتلت الرجل طمعاً في ماله، ثم سمعت حسّ العَسَس فخرجت من الخِرْبة واستقبلت هذا القصّاب على الحال التي وصف، فاستترت منه ببعض الخِرْبة حتى أتى العسَس فأخذوه وأتَوْك به، فلما أمرت بقتله علمت أني سأنوء بدمه أيضاً، فاعترفت بالحق. فقال الإمام عليّ للحسن: ما الحكم في هذا؟ قال يا أمير المؤمنين: إن كان قد قتل نفساً فقد أحيا نفساً، وقد قال تعالى: «ومن أحياها فكأنّما أحيا الناس جميعاً» (المائدة: 32) فخلّى الإمام عليّ عنهما وأخرج دية القتيل من بيت المال».
يتدخّل ابن قيّم بعد ان ينهي الحكاية قائلاً: «وهذا إن كان وقع صلحاً برضا الأولياء فلا إشكال، وإن كان بغير رضاهم فالمعروف من أقوال الفقهاء إن القصاص لا يسقط بذلك، لأن الجاني قد اعترف بما يوجب القصاص، ولم يوجب ما يسقطه، فيتعيّن استيفاؤه». ثم يعلّق في الختام بعبارة تؤيّد صنيع عليّ فيقول: «وبعد، فلحكْم أمير المؤمنين وجهٌ قوي».
نلحظ ان القاتل الذي اعترف بجريمته الفعلية، هنا، لم يعد قاتلاً، وإنما أصبح بمثابة منقذ للناس جميعاً من الموت بحسب منطوق «آية المائدة» التي استشهد بها الحسن. ولكن من كان يخطر بباله، لو لم يعلن القاتل الفعليّ عن نفسه، أن القاتل الوهميّ ليس هو القاتل الحقيقي؟. أحياناً بين الحقيقة والوهم شعرة لا تختلف عن شعرة معاوية!.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق