الأربعاء، 1 أبريل 2015

خواطر أبجديّة




الإنسان يتعلم من كلّ شيء، وكنت قد قرأت منذ أيّام في كتاب بعنوان (حكمة الحكايات La sagesse des contes ) للكاتب الكسندرو جودوروفسكي Alexandro JODOROWSKY عبارة طريفة، قد يظنّها البعض من كلام المجانين، أو البسطاء، أو قيلت على سبيل الهزل، ولكنّها عبارة بديعة، عميقة، وليست باردة المعنى، قال: كان أحد أوائل أساتذتي برّاد، اكتشفت، يقول، إنّ بعض الناس على غرار البرّاد، فهم من الخارج يوحون بالبرود ولكن تكتشف أنّهم أشدّ بروداً من الداخل". ولا أنكر أنني أحاول أن أتعلّم من الحروف، وكلّ حرف أستاذ لغويّ ماهر، وأستاذ في موادّ أخرى. من طبيعة الحرف أن يكون على شاكلة الجاحظ من حيث الموسوعيّة. وما هذه الخواطر إلاّ محاولة بسيطة، عفوية، خطرت ببالي وأنا أتجوّل في عالم الحروف الغنيّ والحركات العربيّة المرنة( إسمها الصوائت في العربيّة حرك، يحبّ الحركة لا الخمول!). وأشكر كلّ حرف تعلّمت منه ولا أزال أكثر من حرف. ومن يتأمّل طبائع الحرف المكتوب والمطبوع والمنطوق يلحظ بعض ما به أبدأ خواطري الأبجديّة. وضيق المقام لا يسمح لي بتناول كلّ حرف وحركة. فاكتفيت ، هنا، بحرفين: السين والجيم.


تجليّات الحرف العربيّ

الحرف العربيّ ليّن، رأسه ليس يابساً، لا يحبّ الرتابة ولا الروتين، يؤمن بالتنوّع والتعدّدية. يتأثّر بجيرانه من الحروف، تراه في صور وأشكال مختلفة. فهو في آخر الكلمة، غيره في أوّلها، وفي وسط الكلمة غيره في أوّلها أو آخرها. يؤمن بأثر السياق في تغيير الأحوال، فالحروف تعرف أن تتعامل مع الظروف، وتلبس لكلّ حال لبوسها. ولكلّ حرف مزاجه الخاصّ، وشخصيتّه الطريفة. سأخذ مثالاً واحداً من حياة الحرف المكتوب، فحياته المكتوبة ليس بالضرورة أن تكون مطابقة لحياته المنطوقة. أكتفي بمثال واحد وليكن حرف السين. وما أدراك ما حرف السين في لبنان! ألم نكن فريسة " س- س" في لبنان - ولا نزال نسمع بين فينة وأخرى دويّ السينيَن في الفيحاء -  أكتب هذا النصّ وأصوات الرصاص الفاسق تضجّ في أذنيّ-. انظر الى السين مثلاً في هذه الحالات الثلاث، ولأبدأ بكلمة وردت إلى الخاطر وهي" سلس"، فالسين في أوّل الكلمة ليست هي نفسها في آخر الكلمة. وانظر إليها في " سدس" حيث للسين الأخيرة استقلالية يظهرها الفراغ الظاهر بينها وبين الدال، وهي هنا غيّرت هندامها الشكليّ، ولم تتنازل عن ذرّة من بدنها بخلاف الأولى التي ضحّت ببطنها كرمى لعينيّ الدال. فلقد احترمت السين الأولى حرف الدال الذي قدّمها على نفسه وأعطاها حقّ الصدارة، فعاملها بالمثل والتحم بها وصارا جسدً واحدا. أما السين الأخرى فقد حردت فانفصلت عن الدال واحتفظت بكامل لياقتها البدنيّة. وللسين أشكال أخرى تحمل طبيعتها وتشترك معها في ليونة المزاج. وأشفق على السين وأنا أراها تفقد، كسباً للوقت، أسنانها الحليبيّة في الكتابة الخطّية لبعض الناس كسباً للوقت فتتقبّل ذلك من غير مضض أو امتعاض.


الجيم حرف لعوب

الجيم حرف لعوب. وهنا لن أتناوله من حيث الجسد، أو الهندام الشكليّ وانما من الناحية الصوتيّة. فهو حرف نطناط، بهلوان. يتوارى، في بعض الأحيان، عن الأنظار فتظنّ أنّه غير موجود، يحبّ تخبئة وجهه بالأقنعة أو يكتفي بلبس طاقيّة الإخفاء. فهو يضع أحياناً على وجهه حرف الدالّ، فتظنّ أنّ الدال هي دال، ولا يخطر ببالك أنّ الدال إبدال، في هذا الموضع، من الدال. طبعاً، حرف الجيم يضحك على أناس كثرين، ولكنّ اللغويين يلحقونه على الدعسة، ويسجّلون سلوكه اللعوب، فتجد كلاماً عنه في ذيل كتاب سيبويه، كما رصد حركاته وألاعيبه ابن جنّي في كتابه الممتع "سرّ صناعة الإعراب". انظر الى الجيم في "جاسوس" والدال في "داسوس"، وهما كلمة واحدة اعترضها ما يعترض بعض الناس من انفصام في الذات، وشرخ في النفس. قد تقول لي وما علاقة الدال بالجيم هنا؟ قد لا يتضّح لك "وجه" العلاقة، وهذا من ألاعيب حرف الجيم الذي يخفي وجهه! لا بأس، سأقفز الى كلمة عربية ذات وجهين، في أي حال كلّ الكلمات ولوع بالوجوه والأقنعة. من يقدر على حبس كلمة في معنى واحد، الكلمات تحبّ الحريّة، وتكره الأقفاص ولو كانت من الألماس. حين تأكل حدّ الشبع، يستحلي فمك الشراب الغازيّ، فتكرع كرعات تسرّ المعدة، ثمّ تشعر أنّك بحاجة الى القيام بفعل صوتيّ ما، له في العاميّة فعل هو " تدشّى". هنا ، تأمّل حرف الدال قليلاً، وتساءل كما تساءلت أنا: هل حرف الدال هنا دال؟ وعلام تدلّ الدال في هذا المقام. إذا سألتك: ما هو فصيح هذه الفعل؟ سأسهّل عليك الوقت، واعطيك الإجابة، فليس لكلّ الناس جلد على القواميس الثرثارة، إنّ فصيح " تدشّى" هو " تجشّأ". هنا كشف حرف الجيم القناع عن وجه الصريح. وجهه الذي نعرفه. ولكن للجيم ولعاً بانتحال صفات حروف أخرى كثيرة. أشعر أحيانا أنّه ماكر كثعلب، وأحيانا بريء كفم طفل. يتوارى أحياناً خلف حرف الزين، يخلع صوته الجيميّ والداليّ ويلبس لباس الزين. هل الجيم زين؟ ماذا تقول؟ قد يظنّ البعض أنّ قولي لعبة من ألاعيب الجيم، ولكن هذا ما يحدث. وليس بيتي من زجاج وأريد رمي بيوت الناس بالحجارة. واقتبست، عمدا، هذا المثل، لأنّي أريد الوقوف خلف لوح زجاج فيه الزين والجيم، إسأل فمك، وهو يحكي حكياً عاديّاً في اللهجة العامية، وقل له: كيف تخرج كلمة " زجاج" من بين شفتيك؟ سيقول لك فوراً " ءْزاز".أرأيت كيف طارت الجيم وغطّت الزين مطرحها؟ ومن يتابع أفواه الصغار في بداية اكتسابهم للكلام، يكتشف كنوزاً لغوية لا تحصر. فم الطفل منجم لغويّ في نظر علماء اللغة، فم محيّر ومكتنز، ويعترف علماء اللغة أنّ أسرار اللغة لا يعرفها الاّ ذهن الأطفال الذين لم يكتسبوا اللغة بعد. انصت الى طفل تمرّ من أمام عينيه دجاجة، وهو في أوّل حبْوه الصوتيّ، يخرج اسمها موشّحاً بحرف الزين " زازي" أحياناً، زين فيها رائحة الجيم، زين بين الجيم والزين. واخرج الى بلاد الخليج واسمع الجيم تظنّ انّك تسمع صوت الياء، فتصاب أذناك بالإعياء لقلّة اعتياد هذه الجيم، وإن كانت الجيم تصير ياء في لبنان، ولكن قد لا ننتبه لها، فنحن نعيش في عالم الأسماء، فقد تعرف شخصاً باسمين رغم انهما واحد، نعرف أيضاً ألاعيب الأسماء المتعددة للشخص الواحد ما بين اسم وكنية ولقب. ولكن ليس عن هذا الموضوع الخصب أتكلم، وانّما عن الاسم الواحد في اسمين، فـ" جوزيف " الوافد الينا من الغرب، يظهر على بعض الألسنة " يوسف"، وما  هما الا تنويعاً على معزوفة اسميّة واحدة. سافرت ياؤنا الساميّة ( يوسف، بالمناسبة، كلمة من اللغة العبريّة) الى الغرب، وغيّرت هندامها الصوتيّ ثم رجعت إلينا في زيّ جيميّ قشيب.

   الجيم حرف ملول، ومتلوّن، يضجر من اللون الواحد، والصوت الواحد. فحياة الجيم حيواتٌ.

ولا تكفّ الأبجديّة عن إعطائنا دروساً في التعدّدية الجميلة.

بلال عبد الهادي


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق