يحتلّ ( دجو كه ليانغ 诸葛亮 ZHU GE LIANG ) في الثقافة الصينية مكانة مرموقة،
فهو من أمهر الاستراتيجيين الذين أنجبهم الجنس الأصفر، ولا يزال الى اليوم ملهماً
لكثير من سلوك الصينيين الاستراتيجيّ. وكان ماو تسي تونغ قد تشرّب الكثير من خططه
في معاركه ضدّ اليابانيين وأعداء الداخل. كان دجو كه ليانغ يمتاز بأعصاب باردة،
وذهن وقّاد. خياله ذو طاقة خلاّقة في ابتكار الحلول، ويعرف كيف يقلب خواتم الأمور
من هزيمة نكراء إلى انتصار خاطف وصاعق، ويعتبر واحداً من الشخصيات المهمة في رواية
" الممالك الثلاثة " الكلاسيكية ذات الشهرة المستطيرة، الرواية التي لا
تزال حيّة بشخوصها وأبطالها، وتستثمر في كلّ المجالات الثقافيّة والفنية: مسرح،
سينما، قصص مصوّرة، مسلسلات تلفزيونية وألعاب فيديو. ولا اظنّ أنّ احداً من الصينيين
يجهل اسم " دجو كه ليانغ" وفتوحاته الاستراتيجيّة.
تحكى عنه حكايات كثيرة، منها قدرته الفذّة على تحويل
الأعداء إلى حلفاء. ففي سنة 225 قبل
الميلاد كان دجو كه ليانغ وزيراً
في دولة "شو"، ولقد شنّت عليه من الشمال مملكة " وي " هجوماً
شاملاً بعد أن تحالفت مع الممالك الهمجيّة في الجنوب. وكان عليه ان يتصدّى لهجوم
الجنوب حتّى يتفرّغ فيما بعد الى صدّ أهل الشمال.
وبينما كان يستعد للهجوم قدّم
لـ"دجو كه ليانغ" أحد جنرالاته نصيحة فقال له:" لن يمكنك تهدئة
المنطقة بالقوّة"، فهو قد يهزم ملك الجنوب مينغو، ولكن سرعان ما يستعيد قوته
ويقوم بهجوم جديد من الخلف ممّا يعيقه عن معركته في الجبهة الشماليّة. وقال الجنرال:
"ان كسب القلوب أفضل من كسب المدن. والاشتباك بالقلوب خير من الاشتباك بالاسلحة".
فقال له ليانغ: "أنّك تقرأ افكاري". فلقد كان ليانغ قد قرّر الاستراحة
من الملك مينغو على طريقته الخاصّة. فليست المهارة في تحييد عدوّ يحسب له ألف حساب،
وانّما المهارة تكمن في كسب ودّه، وهذا أمر يتطلّب ليونة فكريّة تشبه ليونة جسد
أخطبوط.
لقد نصب ليانغ فخّا لمينغو
وأسره مع عدد كبير من جنده، ولكنه لم يفكّر في معاقبة الأسرى. كان إعدامهم لا
يتطلّب الكثير من الجهد. لقد استفرد دجو كه ليانغ بالجنود والجنرالات المأسورين،
وفكّ أغلال الجنرالات والجنود وأكرمهم بالطعام والشراب، ثم خطب بهم خطبة تزعزع مشاعر
العداء. فهو يعرف ان المشاعر سلاح كأيّ سلاح آخر يمكن أن تخاض به الحروب، قال لهم:
اعرف ان جميعكم شرفاء، واعرف ان لكم زوجات وبنين وآباء ينتظرون عودتكم، لهذا قرّرت
أن أطلق سراحكم لتبلّوا عيونكم برؤية من تحبّون". نزل كلام ليانغ صادماً، هم
الذين كانوا على بعد خطوات من الموت المحتوم يُكتب لهم بفضل ليانغ عمر جديد. اغرورقت
عيونهم من وقع كلمات ليانغ المؤثرة والتي تدلّ على نبل وشهامة، فشكروه واعلنوا
انهم سيعودون الى اهلهم، ولن يشاركوا في أي معركة جديدة ضدّه، ثم دعا الملك " مينغو" وسأله: ماذا
ستفعل اذا اطلقت سراحك؟ ردّ مينغو بصدق انه سيعيد ترميم جيشه ويبدأ معركة جديدة، ثمّ
أردف ولكن اذا خسرت في المرة القادمة سأعترف بتفوقك وأكفّ عن قتالك. نظر اليه ليانغ
نظرة اشفاق. كان يمكنه أن يعدمه وينتهي الأمر، ولكن هل يكون ربحه ربحا؟ ليس الى
هذا النوع الرخيص من الأرباح يميل دجو كه ليانغ، لقد قرّر إطلاق سراحه بعد أن
زوّده بهديّة ثمينة هي عبارة عن حصان أصيل.
غضب الجنرالات في جيش ليانغ
من معاملته الغريبة لعدوّه، إذ كيف يطلق سراح خصمه مع إعلان نيته الواضحة بإعادة
الكرّة. ولكن حسابات ليانغ كانت أبعد من نظرات جنرالاته، واعتبر ان ما قام به هو
بمثابة ترويض للملك" مينغو"، والترويض يتطلّب وقتاً، ومن مستلزمات
المروّض التحلّي بصبر غير ملول، والعمل على النفس الطويل. فقال لهم وهو يبتسم
ابتسامته المعهودة: لا تقلقوا، إنّ أسره مجدّداً أسهل عليّ من إدخال يدي في جيبي!
اعاد الملك مينغو ترتيب جيشه، ولكنّ جزءا من ضبّاطه
تمرّد عليه. كيف يحاربون من أكرمهم وعاملهم معاملة فيها الكثير من الإنسانيّة؟ رأوا
أن أفضل حلّ هو أن يأسروا ملكهم ويقدّموه هديّة لدجو كه ليانغ عربون شكر. وهذا ما
كان، وصل مينغو مكبّلاً بالأغلال إلى ليانغ الذي طرح عليه السؤال نفسه، ولكنه اجاب
ان هذه المرة خانه ضباطه، وانهزامه كان بسبب خيانة. للمرّة الثانية قام ليانغ
بإطلاق سراح الملك مينغو، الذي ما ان استعاد حريته حتى قام باعادة تجهيز جيشه للثأر
من ليانغ. كان في كلّ مرة يقع في الأسر. ستّ مرّات أسر، وستّ مرّات كان ليانغ يعفو
عنه، ولكن في المرة السابعة، كان قد آن لليانغ أن يقطف ثمرة صبره.
ففي المرة السابعة ذهب مينغو
وتحالف مع جيش مملكة قصية، وجد ان استعانته بذلك الجيش ضرورية. كان محاربو تلك المملكة
شرسين ويتدرّعون دروعاً مجدولة من الكروم ومغطسة بالزيت والمجففة بحيث لا يسهل
اختراقها بالسهام. كان ليانغ يعرف كيف يستفيد من قوّة خصمه، ويعرف كيف يستعين بهذه
القوّة التي يتمتّع بها خصمه للتخلّص منه. كانت الدروع التي يتدّرعها جيش الخصم هي
أكبر حليف لليانغ. تحويل القوّة الى ضعف يشبه تحويل الضعف الى قوّة لا يستهان بها.
كان ملك المملكة التي تحالف
معها مينغو اسمه " ووتوغو"، وقدم هذا الملك بهذا الجيش الجبار لاستئصال
دجو كه ليانغ، فما كان من ليانغ إلاّ إظهار الخوف أمام ذلك الجيش الجرّار، ولاذ
بالفرار. قد يعمي ضعفك قوّة عدوّك، وقد يغريه ضعفك بمطاردتك الى مكان تتهاوى فيه
قوّته وتستحيل رمادا، وهذا ما اراده ليانغ بالضبط. ظلّ ليانغ يتراجع وجيش ووتوغو
يتعقبّه الى ان حشره في واد ضيق، فأشعل ليانغ النيران في كل مكان من حولهم، كان
الزيت المجفّف في الدروع وقوداً جاهزاً قضى على من يلبسه من غير قتال يذكر. ولكنه
كان في نفس الوقت قد تدبّر امر فصل جنود مينغو عن هذه المحرقة ليتم أسره وهذا ما
كان، الاّ ان ليانغ ترفّع هذه المرّة عن مقابلة مينغو وأرسل وفدا من عنده ، وقال
رئيس الوفد ان ليانغ امره بإطلاق سراحه. هنا انتحب الملك مينغو واستسلم وأعلن أنه
لن يقاتل بعد اليوم ليانغ، بل سيكون جنديا في جيشه. فأقام ليانغ على شرفه وليمة
تليق بالملوك، واعاد إليه أراضيه المحتلة وثبّته على عرشه. ثمّ جهّز جيشه لملاقاة
جيش الشمال بعد ان اطمأن الى ان ملك الجنوب مينغو صار من أخلص حلفائه.
كان خيار ليانغ هو الأصعب،
اختار ترويض وحش الجنوب على القضاء عليه ليكون له عوناً في الأزمات.
بلال عبد الهادي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق