لفتت نظري، كما لفتت نظر غيري، تأكيدا، عبارة شديدة الخباثة، كثيرة الظهور والسفور على واجهات بعض المحلات لا كلّها ولله الحمد، وهي كثيفة، وجيزة، لها لو انتشرت فعل السرطان في الجسد الغضّ، وهي: " نعود بعد قليل" طورا مكتوبة بقلم عريض، كيفما اتفق، كأنها كتبت على حين غرّة، وطورا آخر يتأنّق صاحبها في صوغها، فتراها خارجة من يد خطّاط لا نكران لمهارته الخطيّة، أو من طابعة حاسوب، بخطوط متعدّدة وملونّة ومزركشة، وكأن واضعها يريد أي يلهيك بفتّان ملابسها، عن بهتان مَنافسها، وهي تعبير ثابت، مقيم، لا يتزعزع كأنه من صلب الواجهة، يتحرّك معها، يعّلق كالنيشان على باب المحل الزجاجي، يفقأ صبرك في بعض الأحيان، ويكون له فعل المطبّات في الطرقات في أحيان أخرى، يخضّك خضّا عنيفا، ويعكّر مزاجك الرائق خصوصا إذا كنت على موعد مع صاحب المحلّ، الذي لا يأسرك، هذه المرّة، بلطفه، وإنما يأسرك في شباك هذا القليل الوبيل. لماذا لا يحدّد، هذا الشخص أو ذاك، وقت العودة بالتحديد؟ لماذا يتركها مرهونة بالقليل المطّاط، أغلب الأحيان، ويأخذك رهينة الانتظار والتململ، وكان يمكن له لو أراد، ان يفكّ، بجرّة قلم، أسرك من المكوث الحارق للأعصاب أمام لغز، على زجاج المحلّ، عصيّ على الحلّ. ولكن لا ريب في أن وراء أكمة المسلك ما وراءها، وما ترتجله الأفواه أو تصوغه الأقلام من أقاويل مشابهة، تفوق عدد الأصابع، ممّا يجعل منها ظاهرة تستحق ان تدرس، وتلحظ آثارها في حياتنا اليوميّة، حتى وان بدا للناظر ان دلالاتها قد مسحت مسحا من فرط التداول. ومن الغنى بمكان، في أيّ حال، الحفر لغويا وصولا إلى الخلفيّة الذهنيّة والفكريّة التي تدفع إلى السطح أمثال هذه العبارات الماجنة. والمجون، كالجنون، فنون.
إنّنا ندفع، بسوء مسلكنا، بعض الكلمات إلى الجنوح والإجرام، حين نضعها في بيئة فاسدة ليست بيئتها، وحين نحمّلها أكثر من طاقتها على التحمّل، فينكسر ظهرها دلاليّا، (ولا أتكلم هنا على الانكسار النحويّ، فهذه بليّة أخرى). هل سبق لك ان رأيت كلمة محنيّة الظهر، مهيضة الجناح؟ أصغ إليها، فقط أصغ، بكل قنوات السماع لديك، وهي تخرج من أفواه بعض الناس، أو أصابعهم، وكلام البنان ككلام اللسان، حتى تراها مخدوشة الأصوات، مشقوقة الجلد والأثواب.
عبارة " نعود بعد قليل" تزكم العيون لا الأنوف، ولشناعتنا تتحوّل إلى عبارة من أرذل العبارات، وأشدها فتكا بالناس والأوقات. لماذا نتمادى في القسوة على بعض الكلمات ونظلمها، نخطف هويتها، نجعل منها كيس رمل نختبىء وراءه؟ ألانّنا لا ندري ان للكلمات حيلها الفطريّة في التخلّص من جبروت مستعمليها، وطغيانهم، فتنتقم منهم عبر مقدرتها الفذّة على التحوّل إلى ضوء لاهب يكشف الناطقين بها، عملا بالمقولة العربية الفاتنة: "إذا فتحت فاك عرفناك".
ان سبر استعمال "نعود بعد قليل" واستعراض أخطارها، يظهر إلى أي حدّ ينتهك الناس أعراض الكلمات عمدا أو من غير انتباه، وللكلمات حرمات ومقامات، كما انه يتبدّى لنا إلى أي حدّ نقوم بتشويه جمالها، واغتصاب حرّيتها. إنّ كل كلمة، في غير محلّها، بليّة لغويّة واجتماعيّة وفكريّة. لنتساءل ماذا يقصد بها من يستعملها، إمّا سذاجة وإمّا فجاجة؟ إن من يتبنّى مقولة "نعود بعد قليل" يقوم، في الحقيقة، بتأجيل قول الحقيقة، أو انه إنسان يجهل فنّ برمجة الوقت، لكنه قول يترك، أيضا، للمصادفة ان تتحكّم بحياته ومن ثمّ بحياتنا. إذ ان لهذه العبارة صورا وتجليّات وانعكاسات كارثيّة على حياتنا الاقتصاديّة والفكريّة والاجتماعيّة. ان هذه العبارة الماكر مستغلّها، مقطع دام ودراميّ وكوميديّ في آن واحد من فيلم حيّ، بشحمه ولحمه، يعرض في هواء بلادنا الطلق، وكان الجاحظ قد أشار، قديما، إلى ان" المعاني مرميّة في الطرقات" وما على العين إلا أن تلمّ هذه المعاني المرئية، المفكّكة، الشبيهة بـ"قطع البازل" لتركيب صورة ملوّنة ثلاثية الأبعاد دافقة بالحياة.
نعود بعد قليل، ثلاث كلمات، جملة قصيرة، لا غبار عليها، حين تدرج في المكان المناسب، إلا إنها على ما هي عليه من استعمال، صورة عن واقع الحال العربي الفاجع برمّته، من أول نقطة ماء فيه إلى آخر نقطة نِفط فيه؟ أليس من الندرة بمكان ان نرى الإنسان المناسب في المكان المناسب؟ ولا من يسأل أو يحاسب! والمناسبة من العناصر المهمة في جلْوة الأمور، ولا زلت اذكر كيف ان النصوص الأدبية التي كنا ندرسها ترصّع ببضعة سطور عن مناسبة النص، حتى لا تزلّ قدم قارىء، كما ان جزءا عظيم الشأن من علوم القرآن يتعلق بأسباب النزول، حتى لا ينزلق المفسّر إلى تآويل لا تحمد عقباها، لأن المناسبة إطار ضابط لمسار الدلالة، كما إنها ملاذ آمن للمعنى من حيث كونها الحكمة المضيئة لعتمات النصوص والشخوص.
لا يمكن، أيضا، فصل عبارة " نعود بعد قليل" عن علاقتنا المتوتّرة، المتشنّجة، غير الحميمة مع الوقت، عن سوء تقديرنا له، عن رفض الغوص في أعماق "علم الميقات" الذهبيّ، وليتنا نلتفت إلى ما ترك لنا الأوّلون من ذخائر الاستعمالات والأمثال ذات الصلة بالوقت، فهو ذهب طوراً، وسيف مسنون طوراً آخر. إلا ان عملية إحصائية عاجلة تكشف لنا عورات استخدامنا للأوقات، فالوقت ليس له قيمة، كأشياء كثيرة نسلبها قيمها، بل نشعر انه يفيض عن حاجتنا، ومن هنا نظهر كرمنا الحاتميّ عبر تعابير جافة، دموية، خشنة الملمس، ساديّة حتى العظم، لا تخلو من تشفّ ومقت للوقت، من مثل: "تقطيع الوقت"، "قتل الوقت"، "تضييع الوقت"، "تمريق الوقت". ومن المنطقيّ أن يتجلّى ذلك، هذرا وهدرا، في كل ذرّة من ذرّات حياتنا اليوميّة. وهل الهدر الاقتصاديّ إلا وليد سوء استخدام للوقت؟ حتى أضحى الوقت، يموت منا رعبا، في هذا البلد ، ويوجس خيفة من كل لقاء، لأننا نؤخر موعد محاضرة هنا، وندوة هناك، واجتماع هنالك، حتى دخلت في حياتنا العامّة عبارة من الاسمنت والخفّان، في شكل "قاعة انتظار" ،وتحوّلت إلى قاعة احتضار وصلب للوقت، إلا عند من لوّعته التجربة، فصار يحتاط للأمر بحيل، كأن يحوّل قاعة الانتظار إلى امتداد لمكتب أو عمل.
ان الإنسان العادي، البسيط، يستطيع ان يلغي هذا العبارة من الاستعمال، أو أن يئدها، لأن وأد هكذا عبارات من المكرمات، باتخاذ قرار بسيط، لا يتطلب جهدا ولا وجع دماغ، وانما ممارسة، حازمة، صارمة، توجع، نعم توجع، ولكن من قال ان الوجع ليس درسا، كم من إنسان لم يوقظه إلا وجعه، ولم يكسر فيه النزعات التسلّطية، أو الفوقيّة، إلا كسر صغير في جسده أو خدش طفيف في روحه! المطلوب بمنتهى البساطة هو ان يبادر كل شخص بالامتناع عن الدخول إلى كل محلّ تعلّق على بابه عبارة" نعود بعد قليل"، بقصد الإبهام والتعمية، أي بدلا من ان يوقعنا صاحب العبارة في مأزق، نقلب عبارته عليه، كما ينقلب السحر على ساحره، وستضيق، ساعتئذ، أمام صاحب المحل سبل الخيارات، إمّا الإفلاس وإمّا الاستغناء عنها، وفي ذلك، لا ريب، غناؤه وشفاؤه، وخلاصنا من أنشوطة اللعب العابث بأوقات الناس، سوف ينتبه إلى هذه العبارة الرعناء، ودورها في سلطنة المخاتلة، وسرطنة المماطلة، وتبرير التأجيل، وتمرير التدجيل، فضلا عن دورها المؤكد في تهلهل الوضع الاقتصادي في البلد.
نغترّ، أحيانا، بالأشياء، فلا نفكّر فيما قد تحدثه من انقلاب في باب الاقتصاد، مع ان الشائع اليوم ان كل شيء اقتصاد. وفي الدرس اللغويّ الحديث اتجاه بدأ بالبروز تحت تسمية دالّة: "علم اللغة الاقتصادي"، لأنّ الحياة نفسها تقوم على فكرة اقتصادية، قلّما التفت إليها الإنسان، وهي تعدد وظائف المخلوق الواحد، أيّا كانت طبيعة هذا الواحد:حيوانيّة أو نباتيّة أو تنتمي إلى الجمادات، أليس هذا أيضا شأن المفردات؟ يكفي ان يتأمّل المرء، قليلا، أيّ عضو من أعضائه حتى يدرك حكمة بارئه الاقتصاديّة. والاقتصاد صنو المقاصد. (ويا لها من إشارة نضرة في العربية من خلال الجذر المشترك "قصد"). ألهذا السبب، يا ترى، ما نزال عاجزين - من حيث نحن أمة - عن تحقيق مقاصدنا ؟ أليس عدم وضوح الرؤية أو العشا الاقتصادي الذي يتخبّط فيه العالم العربي هو وليد عشاوة وغشاوة واتكال على فكر مثيل لعبارة: " نعود بعد قليل"؟
إنّنا، للأسف، أمّة تكتب بالقلم العريض، والبُنْط العريض، والحبر المضيء، على بوابة حدودها يافطة بحجم سمائها "نعود بعد قليل". وها مئات السنوات قد مضت على خروجنا من أمم القرار، ومن أنفسنا وعلى أنفسنا، منذ اجتياح هولاكو الشرق أبواب بغداد وصولا إلى اكتساح هولاكو الغرب هواء بغداد.
ماذا يحدث لو أبدلنا " نعود بعد قليل" بأخرى، فيها ثقة بالذات أندى، وبرمجة للأوقات أجدى، بدل الاكتفاء بندب حظّنا البريء ؟ أم أننا سنظلّ بلا حراك، إلى ان يحرّكنا محرّك خارجيّ؟ وفي الأخير، ما قيمة أن تكون ساعاتنا من ذهب حين تكون أوقاتنا من تنك؟
إنّنا ندفع، بسوء مسلكنا، بعض الكلمات إلى الجنوح والإجرام، حين نضعها في بيئة فاسدة ليست بيئتها، وحين نحمّلها أكثر من طاقتها على التحمّل، فينكسر ظهرها دلاليّا، (ولا أتكلم هنا على الانكسار النحويّ، فهذه بليّة أخرى). هل سبق لك ان رأيت كلمة محنيّة الظهر، مهيضة الجناح؟ أصغ إليها، فقط أصغ، بكل قنوات السماع لديك، وهي تخرج من أفواه بعض الناس، أو أصابعهم، وكلام البنان ككلام اللسان، حتى تراها مخدوشة الأصوات، مشقوقة الجلد والأثواب.
عبارة " نعود بعد قليل" تزكم العيون لا الأنوف، ولشناعتنا تتحوّل إلى عبارة من أرذل العبارات، وأشدها فتكا بالناس والأوقات. لماذا نتمادى في القسوة على بعض الكلمات ونظلمها، نخطف هويتها، نجعل منها كيس رمل نختبىء وراءه؟ ألانّنا لا ندري ان للكلمات حيلها الفطريّة في التخلّص من جبروت مستعمليها، وطغيانهم، فتنتقم منهم عبر مقدرتها الفذّة على التحوّل إلى ضوء لاهب يكشف الناطقين بها، عملا بالمقولة العربية الفاتنة: "إذا فتحت فاك عرفناك".
ان سبر استعمال "نعود بعد قليل" واستعراض أخطارها، يظهر إلى أي حدّ ينتهك الناس أعراض الكلمات عمدا أو من غير انتباه، وللكلمات حرمات ومقامات، كما انه يتبدّى لنا إلى أي حدّ نقوم بتشويه جمالها، واغتصاب حرّيتها. إنّ كل كلمة، في غير محلّها، بليّة لغويّة واجتماعيّة وفكريّة. لنتساءل ماذا يقصد بها من يستعملها، إمّا سذاجة وإمّا فجاجة؟ إن من يتبنّى مقولة "نعود بعد قليل" يقوم، في الحقيقة، بتأجيل قول الحقيقة، أو انه إنسان يجهل فنّ برمجة الوقت، لكنه قول يترك، أيضا، للمصادفة ان تتحكّم بحياته ومن ثمّ بحياتنا. إذ ان لهذه العبارة صورا وتجليّات وانعكاسات كارثيّة على حياتنا الاقتصاديّة والفكريّة والاجتماعيّة. ان هذه العبارة الماكر مستغلّها، مقطع دام ودراميّ وكوميديّ في آن واحد من فيلم حيّ، بشحمه ولحمه، يعرض في هواء بلادنا الطلق، وكان الجاحظ قد أشار، قديما، إلى ان" المعاني مرميّة في الطرقات" وما على العين إلا أن تلمّ هذه المعاني المرئية، المفكّكة، الشبيهة بـ"قطع البازل" لتركيب صورة ملوّنة ثلاثية الأبعاد دافقة بالحياة.
نعود بعد قليل، ثلاث كلمات، جملة قصيرة، لا غبار عليها، حين تدرج في المكان المناسب، إلا إنها على ما هي عليه من استعمال، صورة عن واقع الحال العربي الفاجع برمّته، من أول نقطة ماء فيه إلى آخر نقطة نِفط فيه؟ أليس من الندرة بمكان ان نرى الإنسان المناسب في المكان المناسب؟ ولا من يسأل أو يحاسب! والمناسبة من العناصر المهمة في جلْوة الأمور، ولا زلت اذكر كيف ان النصوص الأدبية التي كنا ندرسها ترصّع ببضعة سطور عن مناسبة النص، حتى لا تزلّ قدم قارىء، كما ان جزءا عظيم الشأن من علوم القرآن يتعلق بأسباب النزول، حتى لا ينزلق المفسّر إلى تآويل لا تحمد عقباها، لأن المناسبة إطار ضابط لمسار الدلالة، كما إنها ملاذ آمن للمعنى من حيث كونها الحكمة المضيئة لعتمات النصوص والشخوص.
لا يمكن، أيضا، فصل عبارة " نعود بعد قليل" عن علاقتنا المتوتّرة، المتشنّجة، غير الحميمة مع الوقت، عن سوء تقديرنا له، عن رفض الغوص في أعماق "علم الميقات" الذهبيّ، وليتنا نلتفت إلى ما ترك لنا الأوّلون من ذخائر الاستعمالات والأمثال ذات الصلة بالوقت، فهو ذهب طوراً، وسيف مسنون طوراً آخر. إلا ان عملية إحصائية عاجلة تكشف لنا عورات استخدامنا للأوقات، فالوقت ليس له قيمة، كأشياء كثيرة نسلبها قيمها، بل نشعر انه يفيض عن حاجتنا، ومن هنا نظهر كرمنا الحاتميّ عبر تعابير جافة، دموية، خشنة الملمس، ساديّة حتى العظم، لا تخلو من تشفّ ومقت للوقت، من مثل: "تقطيع الوقت"، "قتل الوقت"، "تضييع الوقت"، "تمريق الوقت". ومن المنطقيّ أن يتجلّى ذلك، هذرا وهدرا، في كل ذرّة من ذرّات حياتنا اليوميّة. وهل الهدر الاقتصاديّ إلا وليد سوء استخدام للوقت؟ حتى أضحى الوقت، يموت منا رعبا، في هذا البلد ، ويوجس خيفة من كل لقاء، لأننا نؤخر موعد محاضرة هنا، وندوة هناك، واجتماع هنالك، حتى دخلت في حياتنا العامّة عبارة من الاسمنت والخفّان، في شكل "قاعة انتظار" ،وتحوّلت إلى قاعة احتضار وصلب للوقت، إلا عند من لوّعته التجربة، فصار يحتاط للأمر بحيل، كأن يحوّل قاعة الانتظار إلى امتداد لمكتب أو عمل.
ان الإنسان العادي، البسيط، يستطيع ان يلغي هذا العبارة من الاستعمال، أو أن يئدها، لأن وأد هكذا عبارات من المكرمات، باتخاذ قرار بسيط، لا يتطلب جهدا ولا وجع دماغ، وانما ممارسة، حازمة، صارمة، توجع، نعم توجع، ولكن من قال ان الوجع ليس درسا، كم من إنسان لم يوقظه إلا وجعه، ولم يكسر فيه النزعات التسلّطية، أو الفوقيّة، إلا كسر صغير في جسده أو خدش طفيف في روحه! المطلوب بمنتهى البساطة هو ان يبادر كل شخص بالامتناع عن الدخول إلى كل محلّ تعلّق على بابه عبارة" نعود بعد قليل"، بقصد الإبهام والتعمية، أي بدلا من ان يوقعنا صاحب العبارة في مأزق، نقلب عبارته عليه، كما ينقلب السحر على ساحره، وستضيق، ساعتئذ، أمام صاحب المحل سبل الخيارات، إمّا الإفلاس وإمّا الاستغناء عنها، وفي ذلك، لا ريب، غناؤه وشفاؤه، وخلاصنا من أنشوطة اللعب العابث بأوقات الناس، سوف ينتبه إلى هذه العبارة الرعناء، ودورها في سلطنة المخاتلة، وسرطنة المماطلة، وتبرير التأجيل، وتمرير التدجيل، فضلا عن دورها المؤكد في تهلهل الوضع الاقتصادي في البلد.
نغترّ، أحيانا، بالأشياء، فلا نفكّر فيما قد تحدثه من انقلاب في باب الاقتصاد، مع ان الشائع اليوم ان كل شيء اقتصاد. وفي الدرس اللغويّ الحديث اتجاه بدأ بالبروز تحت تسمية دالّة: "علم اللغة الاقتصادي"، لأنّ الحياة نفسها تقوم على فكرة اقتصادية، قلّما التفت إليها الإنسان، وهي تعدد وظائف المخلوق الواحد، أيّا كانت طبيعة هذا الواحد:حيوانيّة أو نباتيّة أو تنتمي إلى الجمادات، أليس هذا أيضا شأن المفردات؟ يكفي ان يتأمّل المرء، قليلا، أيّ عضو من أعضائه حتى يدرك حكمة بارئه الاقتصاديّة. والاقتصاد صنو المقاصد. (ويا لها من إشارة نضرة في العربية من خلال الجذر المشترك "قصد"). ألهذا السبب، يا ترى، ما نزال عاجزين - من حيث نحن أمة - عن تحقيق مقاصدنا ؟ أليس عدم وضوح الرؤية أو العشا الاقتصادي الذي يتخبّط فيه العالم العربي هو وليد عشاوة وغشاوة واتكال على فكر مثيل لعبارة: " نعود بعد قليل"؟
إنّنا، للأسف، أمّة تكتب بالقلم العريض، والبُنْط العريض، والحبر المضيء، على بوابة حدودها يافطة بحجم سمائها "نعود بعد قليل". وها مئات السنوات قد مضت على خروجنا من أمم القرار، ومن أنفسنا وعلى أنفسنا، منذ اجتياح هولاكو الشرق أبواب بغداد وصولا إلى اكتساح هولاكو الغرب هواء بغداد.
ماذا يحدث لو أبدلنا " نعود بعد قليل" بأخرى، فيها ثقة بالذات أندى، وبرمجة للأوقات أجدى، بدل الاكتفاء بندب حظّنا البريء ؟ أم أننا سنظلّ بلا حراك، إلى ان يحرّكنا محرّك خارجيّ؟ وفي الأخير، ما قيمة أن تكون ساعاتنا من ذهب حين تكون أوقاتنا من تنك؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق