السبت، 30 سبتمبر 2017

تَرجِموا قبل أن تُرجَموا 巴比伦


أهمّ من أن يمتلك الإنسان النظر هو أن يمتلك بعداً في النظر، فقد يمتلك الكفيف بعداً في النظر لا يتوفّر للمنعّمين بأبصارهم. هذا حال عميد الأدب العربي #طه_حسين الذي اعتبر أنّ "إهمالنا الشنيع للترجمة تقصيرٌ مخْزٍ". ونظرة العميد الراحل كانت ثاقبة ونفّاذة، فالترجمة اليوم ضرورة عربية وحاجة وطنية ومسألة قومية. كما أنّها واحدة من أنجع الوسائل في تغيير الأحوال الباهتة والأوضاع الفاجعة، لذا لا بدّ من إدراج الترجمة في لبّ القضايا العربيّة الكبرى. إنّ العاقل هو الذي يدرس ويسبر سرّ نجاحات الأمم ونهوضها للقبض على آليات الخروج من ورطاته وسقطاته. وليس عبثاً أن ينكبّ ابن جامع الأزهر الشيخ المعمّم المستنير رفاعة رافع الطهطاوي على الترجمة، كما لم يكن من قبيل الافتتان الأجوف بالغرب تأسيسه لمدرسة الألسن عام 1831 بقدر ما كان إحساسه بأنّ الترجمة هي المفتاح السحريّ للخروج من متاهة التردّي الحضاريّ التي كان يعيش العالم العربي في أنفاقها القاتلة.
كنت قد قرأت نصّاً عن الترجمة في اليابان، تلك الدولة التي تدهش كبيرنا وصغيرنا، وتدهش أبناء الشرق والغرب على السواء، مفاد الخبر انها كانت تشتغل في بداية نهضتها، ولا تزال، على الترجمة بهوى يلامس الهوس، إذ تترجم ما لا يقل عن 30 مليون صفحة سنوياً كما انها اعتمدت في نموّها الصناعيّ والتجاريّ على المتابعة الدقيقة والسريعة بل والفورية أحياناً لما يتمّ خارج حدودها من تطور علميّ وتقني، فهي كانت ترصد الكتّاب المهمين وتتفق معهم على ترجمة كتبهم حتى قبل صدورها بلغتهم الأم، فيتزامن نشرها بلغتها الأمّ واللغة اليابانية توفيراً للوقت وإراحةً للقارىء اليابانيّ من وطأة الانتظار. وكانت على الصعيد الدبلوماسيّ لا ترضى، أغلب الأحيان، بإرسال سفير لها إلى دولة لا يتقن لغة أهلها، ألا يكون سفير في دولة ما لا يحسن لغتها " متل الأطرش بالزفّة" على ما يقول المثل في بعض المواقف؟ وقد تجري المياه من تحت قدمي الدبلوماسيّ وهو لا يحسّ. يروي الكاتب الراحل أحمد بهاء الدين أن اليابان أرادت ذات مرة تعيين سفير لها في الكويت إلاّ أنها طلبت منه أن يترجم قبل استلام منصبه "مقدّمة ابن خلدون" إلى اللغة اليابانيّة. قد يقول قائل: وما علاقة الترجمة بنيل رتبة سفير، وقد يردّ القائل المستغرب الأمر الى طبائع الجنس الأصفر الغريبة، إلاّ أنّ تصرّف الحكومة اليابانية لم يكن أخرق أو مزاجيّاً بل إنّها أرادت أن تصطاد بحجر واحد أكبر قدر من العصافير. فهي عن طريق ترجمة هذا الكتاب تحديداً تزوّد سفيرها بخبرة لغويّة وزاد ثقافيّ ومعرفة اجتماعيّة ( مستمدة ممن عجن المجتمع العربي وخبزه) تسمح له بالتواصل المباشر مع المكان والسكّان ممّا يجعله قادراً على استثمار وجوده في البلد استثماراً عظيماً بحكم قدرته على فكّ شيفرة روح تلك الدولة عبر أسرار لسانها، فاليابان تعرف أن من يفصل اللغة عن الثقافة كمن يفصل الروح عن الجسد دون أن يلحظ أنّ الجسد لم يعد جسداً نابضاً وإنّما أصبح جثماناً. وأظنّ أنّ الاطلاع على تقنية #اليابان المبتكرة في الترجمة توفّر على الأمّة العربية الكثير من الهدر في الوقت والحبر، فمن يتابع الأعمال المترجمة إلى العربية يجد أنّ جزءاً لا بأس به من الأعمال المترجمة "بازاريّ" الملامح والتراكيب، وعشوائيّ الأهداف، وفوضيّ المصطلحات لانعدام التنسيق بين الهيئات المشرفة على الترجمة فتجد أحياناً للمصطلح الواحد في اللغة الأجنبية أكثر من عشرة مصطلحات عربيّة فيمتلكك إحساس سكّان مدينة #بابل بعد اللعنة اللسانيّة. 
وإذا انتقلنا إلى إسرائيل، عدوّة العرب الأشرس وقاصمة ظهرهم الجغرافيّ وغير الجغرافيّ، وعقدنا مقارنة سريعة بالأرقام بين ما تخرجه مطابعها من ترجمات وما تصدره مطابعنا لأصابتنا الأرقام بالأسقام. فإنتاج البلدان العربية مجتمعة لا يبلغ أكثر من نصف ما تترجمه إسرائيل، وهذا مؤشر كارثيّ نمّام خصوصاً حين نأخذ بالحسبان الفارق العدديّ بين إسرائيل والشعب العربيّ الهادر! إنّ الترجمة مسألة حياة أو موت للغات لأنّها بمثابة ضخّ دم جديد في شرايين اللغات، وتنشيط تراكيبها الخاملة. إنّ الانهار التي لا تعرف كيف تحتضن روافدها قد تجفّ قبل الوصول إلى مصباّتها. واللغات أنهار وآبار وغيوم. أشير هنا إشارة عابرة الى ولع العرب بوضع عناوين مائيّة لمعاجمهم من "منهل" و"مورد" و"سبيل" و"قاموس" و"محيط".
ورد في "تقرير التنمية العربية" الذي أصدره برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أنّ لكل مليون مواطن عربي كتاباً واحداً مترجماً في حين أنّ لكلّ مليون مواطن أسبانيّ 920 كتاباً مترجماً، الفارق في الكمّ مجلبة - كما يرى القارىء - للغمّ. ولكلّ مليون مواطن في النمسا 519 كتاباً. والعالم العربي مجتمعا لا يترجم إلا ما يعادل خمس ما تترجمه اليونان علماً أنّ عدد سكان اليونان لا يتعدّى الـ11 مليون نسمة. وجاء في كتاب " الخطّة القومية للترجمة" الذي نشرته"المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم" ان مجموع ما ترجم في الوطن العربي منذ الخليفة المأمون وحتى يومنا هذا يصل إلى 10 آلاف عنوان، أي ان هذا العدد يساوي ما ترجمته إسرائيل في اقل من 25 سنة أو ما ترجمته البرازيل في أربع سنوات أو ما ترجمته أسبانيا في سنة واحدة، قد لا تكون الأرقام المذكورة في دقّة الساعات السويسرية إلا إنها تعطي فكرة واضحة على أن الترجمة في العالم العربي لم تدخلْ بعد في حيّز الضرورة رغم أن لا قيامة لنا كاملة وواعية إلاّ من طريق استغلال ثمرات الترجمة الجنيّة.
إنّ المأمون الحاكم العبّاسي الحكيم لم يختر عن نزوة عنواناً دافئاً لدار الترجمة الذي أسّسه وهو " بيت الحكمة"، التسمية شديدة الدلالة على الدور الحكيم الذي تنهض به الترجمة.
فهل من الحكمة أن لا نترجم؟ وهل من الحكمة أن نترك "بيت الحكمة" مخلّع الأبواب؟ في القرن الحادي والعشرين نحتاج إلى أكثر من مأمون واحد حتّى لا نبقى "كمّاً مهملاً" على هامش الأمم، وعالّة على أمجاد الأجداد.
#بلال_عبد_الهادي
المقال من كتاب #لعنة_بابل
#اليوم_العالمي_للترجمة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق