الثلاثاء، 26 سبتمبر 2017

المطبخ اللبنانيّ

لبنان بلد ضعيف. ومن ينكر ضعفه يشبه من يقود سيارته عكس السير، ويستغرب كثرة المخالفين! ولكن الضعف يمكنه أن يكون مصدر قوّة! لم يكن من قال عبارة " إنّ لبنان قوّته في ضعفه" بعيدا كثيراً عن الصواب! ولكن نعرف أنّ من خبث التعابير أنّها " حمّالة أوجه"، و"حمّال الأوجه" يشبه من يكثر من استعمال الأقنعة!
الضعف القويّ أنواع! وهنا سأحكي عن نوع واحد من قوّة لبنان الضعيف. وهذا النوع يمكن أن يندرج تحت ما يسمى بالقوة الناعمة! وهي شهيّة ودسمة! إنّها المطبخ اللبناني، وهي، في وجه من الوجوه، تشبه أحد أسباب قوّة الولايات المتحدة الأميركية، وأقصد بذلك " الهجنة" وهي على خلاف النقاء العاقر.  من أين يستمدّ المطبخ اللبنانيّ قيمته؟ يستمدّها، بكلّ بساطة، من كونه ليس مطبخاً لبنانياً نقيّاً. ويمكن لمن يحبّ أن يختلف معي، وأن ينسف كلامي من أوّل لقمة! ولم أقصد، في أيّ حال، إهانة للمطبخ اللبنانيّ بل، على العكس، أردت إظهار قيمته وقوّته وحضوره الشهيّ في العالم.
قلت: إنّه مطعم هجين وهذه نقطة قوّته، انظر إلى معجم أسماء المآكل اللبنانيّة ستلحظ أنّه " مطبخ ( جَلَبْ )" ، وتعمّدت استخدام مفردة " جلب" وهي مفردة نلصقها، أحياناً، بالشعب الأميركيّ وتحمل دلالة تحقيريّة. فنحن شعب يؤمن بالأنساب، وبساتين تاريخنا مليئة بشجرات الأنساب، وهي لكثيرين مدعاة افتخار وعراقة، عراقة، في أيّ حال، لا تصل إلاّ بكثير من التمحّل والتعسّف إلى الشجرة الآدميّة. ولكن كل الشجرات، عمليا، ليست أكثر من أغصان هشّة. قلت فلنبدأ من أسماء المآكل، وأسماء المآكل فضّاحة أكثر من أسماء الأعلام، فعندنا ال"شيش برك" ولا أظنّ أحدا سينطّ ويقول لي إنها كلمة " فينيقية"، أو " سريانية" أو " عربية"، وإن نطّ فأهلا بـ " نطّاته"، - لست على خلاف مع من يؤمن بالعنزة الطائرة في بلدٍ يحلم الإنسان أن يكون له فيه "مرقد عنزة"! أرحّب به وبعنزته الطائرة!
وعندنا "المغربية"، وهي شكل من أشكال الكسكس، واسمها صريح الانتماء، وعندك سيخ "الشاورما"، ويكفي الوقوف عند إحدى مفاخر المطبخ اللبنانيّ وهي " المازة " التي تعترف بعظمة لسانها أنّها كلمة "دخيلة" على اللهجة اللبنانيّة أو اللغة العربية بنكهتها اللبنانيّة! فمن يجرؤ على الادّعاء بأنّها كلمة عربية بشحمها ولحمها؟ ولا يمكن نسيان " البرغل" الذي أراد البعض تحطيم نفسيّته واتهامه بالانتحار شنقاً، فهو لا يزال حيّاً يرزق، ولا يزال في كامل زهوه ولياقته من خلال طبقين هما من مفاخر لبنان، وأقصد " الكبة النيّة" و "الكبة المشويّة". والبرغل ليس كلمة عربيّة  وليست من أب وأم لبنانيين.
ولكن ميزة لبنان انه كأميركا. غير أنّه بدلاً من أن يكون مصهراً للأعراق كان مصهراً للأذواق والمذاقات. وإن كان، في مكان ما، مصهراً للأعراق، فهناك مَن أصله خليط من تركيّ وعربيّ، وهناك مَنْ أصلُه كوكتيل كما كان حال أمير الشعراء أحمد شوقي، وليس عيباً أن تكون " كوكتيلاً من الأعراق"، بل ربّما العيب أن لا يكون في عروق المرء إلاّ دم من جنس واحد! وهذا نادر الحدوث في بلد هو معبر لكلّ أقوياء العالم من أيّام الفراعنة واليونان وبني ساسان والرومان وصولاً إلى فرنسا وبريطانيا وانتهاء بقوّات " اليونيفيل"!
من هذه الهجنة ولدت " قوّة المطبخ اللبنانيّ"، قوّته بنت قدرته في "لبننة" المآكل التي حملها معهم "الفاتحون"، بإضافة مكوّن جديد على " أكلة" تركية، أو حذف مكوّن من " أكلة " فلسطينية، أو " تنكهة" مذاق أكلة مسيحية لتلائم المذاق المسلم، أو تنكيه أكلة إسلامية لتلائم المذاق المسيحيّ. وأدّى هذا التفاعل بين المذاقات إلى توليد مذاق المطبخ اللبنانيّ الفريد.
واللبنانيّ لظروف متعددة - ولا تخلو دراسة الأسباب من طرافة ووجاهة - صار " ذِوِّيقاً" في "المأكل " و" الملبس" ، وهذا ما تشهد عليه دور الأزياء من خلال إيلي صعب وأمثاله من رجالات الموضة.
وهذه " الذواقة" انتجت المطبخ اللبنانيّ الذي صار مطبخاً عالميّاً، وما يؤكّد ذلك انتشار المطاعم اللبنانية في أنحاء المعمورة. المطعم اللبنانيّ في العالم رسول سلام يروي الغليل، وترحّب به المعدة ( هناك من يسمّي المعدة االدماغ الثاني)، ولكنّه أيضاً قوة مغذّية ناعمة تفتح الشهيّة. هل كان بمقدور المطبخ اللبناني أن يصبح عالميا لولا مآسيه؟ المآسي عصا سحرية في يد الأقدار. فاللبنانيّ يفتخر أنّه منتشر في العالم، ولكن أليس سبب انتشاره هو أنّه لم يعرف أن يبني وطناً؟ أليس سبب افتخاره بانتشاره هو ترهّل نظامه السياسيّ الأرعن؟
الطعام ثقافة كاملة الأوصاف، والانسان حين يهاجر يحمل معه ثقافته أي يحمل معه أيضاً طعامه. ومن طريف اللغة العربيّة أنّها ربطت السفر بالطعام من خلال كلمة "سفرة "، كما أنّها استخرجت من هذا الجذر معنى الكتاب وهو "السِفْر". جذر ثلاثيّ مثلّث الأبعاد والدلالات. فالطعام كتاب يستهويه السفر،  وتاريخ الأطعمة هو في جزء منه تاريخ أسفار، فطريق "الحرير" هي أيضا طريق " التوابل" .
والمطبخ اللبنانيّ هو في مكان ما قوّة اقتصادية أتته من ضعفه السياسيّ. فما هو المبلغ الذي تدرّه المآكل اللبنانية في العالم؟ وما هو دخل لبنان المباشر وغير المباشر من المطبخ اللبناني المهاجر؟
المطبخ اللبنانيّ قوة اقتصادية ولكنّه أيضاً قوة سياحية، ويحقّ للبنان أن يرفع عالياً رأسه بتبّولته وكبّته ومازته ومنها بالتأكيد " حمّصه"، وهذا الأخير يمكن أن ندرجه ضمن " الطعام المقاوم"، إذ إنّه يخوض في العالم معركة مع إسرائيل ليست ساحتها فقط صفحات "موسوعة غينيس". ويضحكني من يسخر من هذه المعركة وكأنّه لا يدرك أنّ الصراعات هي في مجملها صراعات "رموز" عديدة منها ما ينتمي إلى الدين، ومنها ما ينتمي إلى عالم الأزياء، ومنها ما ينتمي إلى عالم الطعام.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق