الأربعاء، 20 سبتمبر 2017

هجرة الجماد


هجرة

كل الكائنات تهاجر: الحيّ والجامد والنامي. فالانسان يهاجر، والعصافير تهاجر، والّاسماك تهاجر، والأشجار تهاجر، والمياه تهاجر، أليس التبخّر شكلاً من أشكال الهجرة؟ والرمال تهاجر، تفرض عليها الرياح اللواقح الهجرة القسرية، كما تفرض عليها السيول والأمطار الهجرة القسرية، الهجرة التي تولّد االخصب في أحشاء الطمي. وهل بإمكان دلتا النيل نكران فضل الهجرة على خصوبة طميه؟ لا يمكنك، ايها الكائن، أيّاً كان تصنيفك بين الكائنات، إلاّ ان تهاجر، لكأنّ الهجرة هي القاعدة، والإقامة هي الاستثناء المتعذّر. فالهجرة هي السنّة الوحيدة التي لا تميّز بين حيّ وجماد. واذا لم تهاجر جاءت الهجرة إلى باب دارك. تتنوّع أشكال الهجرة تنوّع أشكال الكائنات، فالشجرة قد تهاجر حين تنقل من تربة الى أخرى، وقد تهاجر حين تخلع شكلها الشجريّ، وتلبس شكلها الخشبيّ على شكل خزانة او رفوف مكتبة أو أو... والحديد يهاجر حين يصير باب سيارة أو عمود إشارة سير أو مكوناً من مكوّنات اللحم البشريّ.

كلّ الكائنات تهاجر، وبالهجرة يتم التعارف. تكلمت عن هجرة الجمادات والناميات فما بالك بهجرة الأحياء من الناس والحيوانات؟

قد لا تخرج من بلدك، ولكن من خرج من صلبك قد يخرج من بلده أي فلذة من روحك هاجرت، وفلذة من لحمك هاجرت وساحت في أرض الله الواسعة.

وهل الاستيراد والتصدير غير شكل خفيّ من أشكال الهجرة؟ا

عدم الهجرة رغبة ممتنعة لأنّها سرّ من أسرار الحكمة الإ"لهيّة.


مأتم الأفرح

إذا سألت أي إنسان ما معنى المأتم؟ سيجيب بسرعة انه الحزن. ولكن الجواب، هنا، هو، لغويّاً، نصف الصواب. فالحزن جزء من معنى الكلمة ولكن ليس كل المعنى.

الكلمات تتغير، كالناس، وتغيّر سلوكها كالناس. فمن الناس من يغير مهنته، أو مسكنه، وهكذا الكلمات، يحلو للدلالات أن تغيّر، بين وقت ووقت، السكنى في الالفاظ.

لفت نظري أن "مأتم" تعني الفرح ومجمع المسرّات أحياناً. والفرح في المآتم قد يصدم الناس. إذ كيف يكون حزن في فرح؟

إذا عدنا إلى الكلمة نكتشف ان معناها "الاجتماع"، لأنّ المأتم من فعل "أَتَمَ" بمعنى "جَمَعَ" وهو كلمة غريبة على سمعك لأنه لم يعد مستعملاً الآن. مأتم ابن " أتم"، وفي الحياة تصدف ان تعرف الابن ولا نعرف شيئا عن الأب أو الأم. غرابة" أتم" من هذا الباب. فهو فعل سلّم مهامه للمآتم.

والاجتماع قد يكون للأحزان كما قد يكون للأفراح.

ولكن كلمة "مأتم" وقفت إلى جانب الحزن وتعاطفت معه، ولكثرة ارتباطها بالحزن صارت تعني المكان الذي يجتمع فيه الناس للتعبير عن أحزانهم لفقد حبيب أو قريب.

في أي حال الانسان يبكي من الحزن ومن الفرح!

فليس للدمع هوية واحدة وهو، على ما يبدو، لا يؤمن بالتمييز العنصري.


شوق الحواسّ

الانسان حين يغادر بلده يغادره محمّلاً بالحنين، لا يعرف في أي لحظة ينفجر الحنين في وجهه، عن طريق رائحة عابرة أو ملمس يلمس شغاف الذاكرة، أو مشهد يحرّر مئات المشاهد في الذاكرة المكنونة، أو مذاق يجعل الوطن البعيد في متناول الفم.

كل الذين يسافرون يعرفون أشواق حواسهم ويكابدون اشواقها اللاسعة. وإلاّ ما معنى عبارة " شو جايي ع بالي..." حين تخرج من شفتين ترتجفان من شوق حارق؟


خطط الأقدار

تبيح الأقدار لنفسها استخدام كلّ الوسائل لتغيير المصائر، واستعمال كلّ العواطف: الحب، الكره، الحقد، التسامح، الرفق، العنف، الرفعة، الدناءة

ما يلفت نظري هو ان الاقدار تتخذ من الحبّ مطية لتغيير المصائر وتحويل مسارات الناس: مثلاً قد تجد شخصاً من عائلة غنية جدا يقع واقول " يقع " في حبّ فتاة من عائلة فقيرة جدا أو " يسقط"  كما في اللغة الفرنسية عاشقاً "tomber amoureux" لفتاة من طبقة معدمة. هنا يحصل تغيير غير متوقّع في حياة العائلة الفقيرة، تغيير يشرف على انجاز تفاصيله الدقيقة " قدر محنّك"، تغيير بمثابة منعطف حادّ ما كان، ربّما، في وارد العائلة. ماذا يكون الحبّ، هنا، غير لعبة سارّة  وسرّية من عمل الأقدار؟

وقد يكون الكسل والاجتهاد من وسائل تغيير المصائر. ألا يغيّر كسل الغنيّ مصير الغنى؟ إنّ القدر لا يكفّ عن استخدام اي وسيلة لتوزيع الأدوار على مسرح الزمن الدوّار.

حرمة المعاجم

اعتبر المعاجم شبيهة بالمدن. في المدن يتشارك الأحياء والأموات معاً في العيش، حتى ولو قضى الموتى ما تبقّى من وقت في انتظار البعث خارج أسوار المدن. من يتأمّل أسماء مقابر مدينة طرابلس مثلا ينتبه الى صلتها بالأبواب والأسوار القديمة من مثل مقبرة " باب" التبّانة، أو "باب" الرمل. لم يبق من الباب إلاّ اسمه، الباب فاصل بين مسكن الأموات ومسكن الأحياء. رغم الفاصل لا يمكن لحيّ أن يستغني عن التواصل مع الميّت، الموتى حاجة روحية للأحياء. والحيّ لا يقوم بزيارة الأحياء فقط، يقوم بزيارة موتاه في المناسبات السعيدة ( الأعياد) والحزينة ( موت طريّ).

وهكذا في المعاجم كلمات كثيرة ميتة لا يمكن الاستغناء عنها ولا يجوز الاستهتار برفاتها اللغويّ.

ليس من السهل الاستغناء عن الموتى حتى بعد ان يتحولوا إلى هياكل عظمية، وليس من السهل الاستغناء عن الكلمات الميتة.

وكما يقوم علماء الانسان والحضارات والآثار بالتنقيب في جوف الأرض عن بقايا عظام من تواريخ قديمة، هكذا يفترض بعلماء اللغة، النبش عن عظام لغوية في جوف المعاجم والنصوص لمعرفة سبب غيابها، أو لتسليط الضوء على أحفادها الأحياء في صلب المعجم /المدينة. ولا بأس من إعادة التذكير، هنا، بوفاة فعل (أَتَمَ) المذكور أعلاه وتوريث ممتلكاته أو بعض ممتلكاته الدلاليّة لكلمة "مأتم"!

للموتى من البشر حرمة، وللموتى من اللغات والمفردات أيضاً حرمة! ولا تخلو المقابر من أسرار لغويّة، أليس هذا ما تقوله، في أيّ حال، الهيروغليفية في دهاليز الأهرامات؟


بلال عبد الهادي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق