الجمعة، 22 سبتمبر 2017

النحت اللغويّ في اللغة العربية كنز مهمل

نحت الكلام

النحت اللغويّ مخزونٌ استراتيجيّ للغة العربيّة، وهو مخزون بخلاف النفط لا يمكن  نضوبه. ورد في كتاب " المزهر" للإمام جلال الدين السيوطيّ - وهو كتاب شديد الغنى في المجال اللغويّ- بعض النقاط حول " النحت " اللغويّ، ولا يخلو، فيما يبدو، النحت اللغويّ من قرابة خشبية مع النحت الفنّيّ!. فلقد ورد أنّ المصطلح هو ابن النجارة، بشكل من الأشكال، إذ يقول السيوطيّ عن الكلمة التي ولدت من جذرين لغويين:" يسمّى في كلام العرب المنحوت، ومعناه أنّ الكلمةَ منحوتَةٌ من كلمتين كما ينحت النجّار خشبتين ويجعلهما واحدة". وتستعين العربيّة، بين وقت ووقت، بالنحت لتوليد كلمات، ومن الكلمات الحديثة جدّاً هاتين الكلمتين اللتين تعنيان معنى واحداً وهما: لغة "الأرابيش" و" العربيزيّ". لا يبدو، من حيث الظاهر والمسموع أنّ هناك علاقة دلالية حميمة بينهما بخلاف الواقع اللغويّ. والكلمتان تشيران إلى ما يعرف أيضاً بـ"لغة النتّ" أي كتابة اللغة العربية على مواقع التواصل بالحرف اللاتينيّ بدلاً من الحرف العربيّ مِن قبل بعض مَن لا يقيم لحرمة اللغة وزناً أو اعتباراً، أو لا يعي ماذا تفعل أصابعه الآبقة، وهي علّة من جملة العلل التي نعاني منها في عالمنا العربيّ المأزوم والمتخبّط في الحيرة. والفرق بين المفردتين هو أنّ الأولى منحوتة من كلمتين انكليزيتين، في حين أنّ الثانية منحوتة من كلمتين عربيّة ومعرّبة: عربيّ و(إنكليـ)زيّ.
والنحت اللغويّ قرش أبيض، ومجال حيويّ لتوليد كلمات جديدة في عدّة لغات كالفرنسية والانكليزيّة والصينية، والصينية ذات قدرة نحتية رهيبة غير محدودة. بينما نجد أنّ لجوء العربيّة إلى النحت قليل. فهي، بحسب علماء اللغة، ذات طبيعة اشتقاقيّة بينما الفرنسيّة مثلاً ذات طبيعة نحتيّة.
كنت أقرأ مقالاً عن الطاقات الاقتصاديّة الرقميّة فوقعت تحت نظري كلمة فرنسيّة طريفة هي ثمرة من ثمرات عصر الإنترنت mobinaute، وعصر الهاتف الذكيّ. فـ"موبينوت" هي كلمة أخذت وجودها من كلمتين كما يأخذ الإنسان وجوده البيولوجيّ من والدين إلاّ إذا ادّعى أنّه آدم أو حوّاء!.  فالكلمة منحوتة من  mobile  ومن internaute. وكلمات كثيرة تضحّي ببعض حروفها، وتتنازل عن بعض كيانها لتعيش حياة جديدة، وفي هذا الزمن المعولم تكثر الهجنة اللفظيّة، والهجنة ليست عيباً، كأن تأخذ مقطعاً من لغة ما، ومقطعاً من لغة ثانية لتوليد كلمة جديدة، كما كلمة " nétiquette  " التي ولدت من تزاوج اللغة الفرنسيّة واللغة الإنكليزية، لتعني " آداب السلوك على الإنترنت أو النت"، وقد يظنّ القارىء أنّ اللغة الفرنسيّة أخذت حرفاً واحداً من الإنكليزية هو حرف "N"، ولكنها، فعلياً، أخذت ال " net" ، ولو لم يكن النت موجوداً لما خطر ببال الفرنسيّة أن تنجب هذه الكلمة، أو لكان لها حياة دلاليّة مختلفة. والعربية ليست غريبة عن هذا التهجين اللغويّ الولود الذي أحبّ تسمية المفردات المنسوجة على منواله بـ"المفردات الخُلاسيّة". وبقيت عندنا مفردات خلاسيّة عديدة من الزمن التركيّ لا تزال حيّة ترزق على الأفواه، ومنها: " مصلحجي"، ومنها من يعيش حياة شرعيّة في دوائر النفوس والأحوال الشخصيّة حيث يستحيل إلغاؤها لأنّ ذلك يسبّب خلخلة لشجرات أنساب كثيرة مثل عائلة قائد الجيش اللبنانيّ الحالي" قهوجيّ" المنحوتة من القهوة العربيّة ومن اللاحقة التركيّة " جي". ولا تزال الألسنة تزوّدنا بمفردات جديدة تستعين بـهذه الـ"جي" التركيذة، كما في كلمة " قومجيّ" التي تختلف دلالتها عن "قوميّ"، حيث تمنح الـ"جي" في " قومجيّ" دلالات تظلّلها السلبيّة وعلامات الاستفهام والاستهجان. 
في العربية يندر النحت بسبب طبيعة اللغة الاشتقاقية، ولكن من يمكنه أن يغلق الباب أمام طاقات النحت الكامنة في تضاعيف الحروف؟ بل يمكنني القول إنّ اللغة العربية ذات طبيعة نحتية أيضاً ولكن قلّما انتبهنا إلى ذلك.
الجذر الغالب للكلمات العربية هو الجذر الثلاثيّ. هذا صحيح غير أنّ الجذر الرباعيّ موجود ويطلّ برأسه كثيراً في مناسبات عديدة، ولكن عصا الفصحى بالمرصاد للجذور الرباعيّة الجديدة، إذ تغلق أمامها أبواب المعاجم وأبواب الكتابة الفصيحة. وتدهشني الفصحى في مقدرتها على توليد دلالات فائقة الروعة في الاستخدامات الرباعيّة .ما معنى أن يتحالف الجذر الرباعيّ مع  " النحت"؟ ما معنى أن نستعين بالجذور الثلاثية لدعم وتخصيب الجذور الرباعيّة؟ هذا يعني بكلّ بساطة امتصاص كلّ الكلمات الغربية الوافدة بعدّتها وعديدها وجديدها، ثمّ تدجينها وإلباسها الزيّ العربيّ. وفي العربيّة قاعدة ولود تقول: "ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب"، وهي قاعدة سموح، لا تؤمن بالعنصريّة، ولا تمارسها، قاعدة  لغويّة صدرها رحب. وهناك نظريّة لغويّة أيضاً تقول: " إنّ كلّ جذر رباعيّ إنّما هو ابن جذرين ثُلاثيّين". ولقد ورد نصّ في " مزهر" السيوطيّ عن توليد كلمات لا تخطر ببال، وهي منقولة عن كتاب" المستوفي" لابن الفرحان، تقول العبارة: " ينسب إلى الشافعيّ مع أبي حنيفة شفعنتيّ، وإلى أبي حنيفة مع المعتزلة حنفلتيّ". طبعاً، لا أظنّ أحداً سمع بـ"شفعنتيّ " أو " حنفلتيّ " إلاّ إذا كان متخصّصاً ومتمكّناً من فقه الشافعيّ، أو أبي حنيفة، أو ابن حنبل، وقلب مذهب الاعتزال الكلاميّ ظهراً لبطن.
ويمكن الاستفادة أيضاً من أفواه الناس العاديّين الذين يطاوعهم اللسان ويسلس لهم القياد في تدجين الكلمات الجديدة، وترويض الأصوات الوافدة والتراكيب الشَّموس. وكم أحبّ الإنصات إلى الناس العاديين شبه الأميين، وهم يتلفّظون بالكلمات الأجنبيّة. وأعتقد أنّه يمكن الاستفادة من فطرتهم اللغويّة الساذجة والحصيفة في إيجاد الشكل المناسب للكلمات الأجنبية الرجراجة كالزئبق.
الإنسان الأمّيّ، في بلادنا، يتعرّض سمعه يومياً لأصوات غريبة عليه تأتيه من لغات غربيّة وشرقيّة ( صين، يابان، كوريا)، ولكنه يأخذها ويعيد صياغتها بحسب ما يملكه من رصيد لغويّ. وأحياناً كثيرة  أندهش لمقدرته اللغوية في التقاط المعادل الصوتيّ العربيّ الطريف واللطيف والجديد للوافد من الأصوات الأجنبيّة.
وعلى اللغويّين أن يستعينوا بأفواه العامّة من الناس، فأفواه الناس معاجم حيّة، وحيويّة، وبراغماتيّة، وبارعة في التعامل الذكيّ مع الجذر الرباعيّ أكثر بكثير من رجالات أهل الفصاحة "المُتَفَيْهِقين" الذين لا يحبّون فتح شبابيك اللغة خوفاً على جسدها البضّ والغضّ من أن تصيبه "صفعة هواء"  بارد فتصاب من فرط حبّهم لها بالتكلّس اللغويّ !
بلال عبد الهادي



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق